ذكريات من الماضي القريب
كنت جالسا مع أبي على مائدة الغداء، أحادثه عن المقالات وأخبره بمخططات الكتابة القادمة؛ قال لي لماذا لا تكتب عن الأوزان القديمة؟ فقلت لمَ لا، فللأمر أهمية بالغة لقارئي التاريخ قريب العهد خصوصا.
يرد ذكر الأوزان القديمة في كتب التاريخ قريبة العهد في مواضع شتى تتعلق بالمعاملات التجارية والغرامات والثروة وحتى عند ذكر زاد الجيوش والمقاتلين والمسافرين، وكانت معاملات الناس بها حتى بدايات عام 1970، وكان العمانيون يستعملونها في معاملاتهم اليومية كما نستعمل الجرام والكيلوجرام اليوم؛ لذا فإن لها أهمية تاريخية بالغة.
قمت بمحاولة البحث والتقصي من الكتب التي استطعت الوصول إليها ومن الباحثين الذين تواصلت معهم الأستاذ سلطان بن مبارك الشيباني والأستاذ جمال بن محمد الكندي اللذان أفاداني مشكورين إفادة عظيمة.
والكلام التالي لهذه الافتتاحية، يرجع الفضل فيه لأبي محمد بن سعود الدغيشي مباشرة، وهو عن مقاييس الوزن والمسافة والطول المعمول بها في الماضي القريب.
فأما في مقاييس الوزن فمنه "البهار" وقدره مئاتي مَنٍّ، وتوزن به الكميات الكبيرة من التمور والبسور. والمَنُّ يعدِل أربعة وعشرين "كِياسا"، والكِياس يعدِل وزن ستة قروش فرنسية، ثم تأتي بعده "الفراسلة"؛ وقدرها عشرة أمنان، وتوزن بها الكميات المتوسطة. وبعد ذلك "القَلَّة" وقدرها مَنَّان، وأقل من القلة "المَنُّ" وتوزن به غالبا الأعلاف كالقت والشعير والغشمر والبازري والرشيدية والدَّخْنُ وحتى الكميات القليلة من التمر وهو ما يقارب الأربعة كيلوجرامات اليوم. وآخر هذه المقاييس هو "الكِياس"، وتوزن به بعض الأطعمة كالرُّز والتمر القليل واللحم والسوائل كدبس النخيل والسمن والزيت.
ثم جئنا على ذكر أنواع الموازين المستعملة وهي نوعان؛ فالأول منهما يسمى "أبو ذويل" وهو عمود حديدي مخطط بطلاء من فضة، وتُعَلَّق فيه البضاعة المراد معرفة وزنها، وفي المقابل عِيار من حديد أو حجارة بما يعدِل مقدار مَنٍّ من الموازين. وأما الثاني فهو "أبو الطفيف" وهو نوعان، أحدهما عبارة عن دائرتين من سُفَّة سعف النخيل، وتعلق هاتان الدائرتان في عمود من خشب مخروم الوسط لمسكة اليد، وتوضع في إحداهما البضاعة، وفي الأخرى العِيار المُراد وزن البضاعة به. والآخر بنفس الطريقة ولكنه يكون من الحديد، ويُستعمل فيه الكياس كعِيار.
وفي مقياس المسافة كان العمانيون يقيسونها بالفراسخ وهي جمع فرسخ وارتبط هذا المصطلح بكتب الفقه، ولكنه كان مستعملا متداولا في الحياة اليومية. والمسافة التي يكون بها جواز صلاة السفر جمعا أو قصرا هي فرسخان، والفرسخ يعدِل ثلاثة أميال، والميل يعدِل أربعة آلاف قدم.
ويتمثل مقياس الطول في خمسة أنواع؛ أولها القامة وهي طول جسم الإنسان ويُقاس بها ارتفاع بعض الأشياء علوا، كجذوع النخل وارتفاع المباني، وانخفاضا كأعماق الآبار أو أي حفرة.
وهنا أستحضر قول الفرزدق:
هُما دَلَّتاني مِن ثَمانينَ قامَةً
كَما انقَضَّ بازٍ أَقتَمُ الريشِ كاسِرُه
ثم الباع، وهو المسافة حال بسط الشخص فيها لذراعيه ؛ وتساوي ما يُقارب المتر ونصف المتر، وتُقاس به المصنوعات السعفية كالحبال والسفيف التي تصنع منها الظُّروف والسميم التي كانت تستخدم للفراش. وأقل منه الذراع؛ وهو ما بين مفصل مرفق اليد إلى نهاية الإصبع الوسطى، وتُقاس به الأراضي والأقمشة. والمقاس قبل الأخير هو الشِّبر؛ وهو المسافة ما بين الإصبعين الخنصر والإبهام حال بسط المرء ليده، وتُقاس بها الملابس عادة قبل أو بعد خياطتها. وأخيرا يأتي الفتر؛ وهو المسافة بين الإصبع السبابة والإبهام، ويُضرب بهذه المسافة مثلا على استحالة رضى زوج عن زوجته في الخروج من المنزل مثلا وكذلك لبقية أفراد الأسرة. فيقول رب الأسرة على سبيل المثال (ما حد يخرج فتر واحد)، أي لا يخرج أحد منكم مقدار فتر.
وقد اتصلت في سبيل الوصول لمعرفة وزن القرش الفرنسي بالباحث الأستاذ سلطان بن مبارك الشيباني، وقد زوّدني مشكورا بصور من هامش كتاب "تمهيد قواعد الإيمان وتقييد شوارد مسائل الأحكام والأديان" تأليف الإمام المحقق سعيد بن خلفان الخليلي وبتحقيق حارث بن محمد بن شامس البطاشي الصادر عن مكتبة الشيخ محمد بن شامس البطاشي للنشر والتوزيع. في هامش الجزء الرابع عشر من الكتاب "القرش الفرنسيسي: القرش الفرنسي يساوي وزن 7 مثاقيل فضة أو 28 جراما فضة".
ثم وجدت في هامش كتاب "الحملة الفرنسية على ميناء المخا عام 1737م بقيادة السيد دو لا غارد جازييه" الصادر عن دار عناوين BOOKS للنشر بترجمة عبدالغني غالب الحاجبي ما نصه "البهار هي وحدة قياس قديمة، وتختلف أوزانها حسب البلد ونوعية البضاعة. لورانت ليب Laurent Lipp قدم تفصيلا حول الأوزان التي كان يتعامل بها البحّارة في حينه في كتابه بعنوان: دليل المتداول أو رسالة تعليمية حول التجارة. وذكر (ص 113) أن بهار المخا من البضائع يعادل 15 فراسلة، وأن 7 فراسلات من المخا تعادل 10 فراسلات من بيت الفقيه. كما ذكر ليب (ص 599) أن بهار المخا يساوي 420 رطلا باريسيا. ويعادل الرطل الباريسي حوالي 0.4895 كجم، وهذا يعني أن البهار الواحد من القهوة يعادل حوالي 206 كجم (المترجم)". وما يؤكد اختلاف وزن البهار باختلاف البلدان كما ذكر المترجم هنا، أن مقدار البهار في المخا مختلف عنه عند العمانيين وفي بلدان الداخل خصوصا.
أما في دلالات ومعاني بعض الكلمات المستعملة؛ فالظروف جمع ظرف، وهو ما يشبه الكيس الكبير ولكنه مصنوع من سعف النخيل، ويستعمله العمانيون لحفظ التمور ولتغليف لحم الشواء قبل رميه في التنور. والسميم جمع سُمَّة؛ وهي فراش، شبيهة بالبساط أو السجاد وتستعمل استعمالهما، وتصنع من سعف النخيل كذلك. والقرش الفرنسي ليس فرنسيا؛ وإنما هو الريال النمساوي بعينه "وهي عملة فضية سكت عام 1741 وسُمّي باسم الملكة ماريا تيريزا التي حكمت النمسا وهنغاريا وبوهيميا من عام 1740 إلى 1780"، ويكيبيديا.
وقد نأتي على ذكر بعض الكلمات التي وردت في كتب اللغة والفقه القديمة، خصوصا أن كثيرا من علماء الفقه العمانيين سابقا، كان لهم باع عريض في اللغة؛ كالعالِم الفذ سلمة بن مسلم العوتبي صاحب الإبانة في اللغة والضياء في الفقه، وكان يحيل في كل كتاب من هذين الكتابين إلى الآخر، وفي ذلك دلالة على ارتباط اللغة الدارجة ارتباطا وثيقا بالفقه والتعامل اليومي.
* علاء الدين الدغيشي كاتب عماني