ديوان العرب
دائما ما تصادفنا كلمات أو عبارات لا نلقي لها بالا لكثرة ما سمعناها وتردد ذكرها على مسامعنا منذ الصغر، وحين نتفكر في تلك العبارات التي فقدت أهميتها لكثرة التكرار نجدها محملة بالحكمة والتجربة لعباقرة قضوا منذ مئات السنين.
لطالما سمعنا عبارة "الشعر ديوان العرب"، ولا نلقي لهذه العبارة بالا، فتمر علينا دون أن تؤثر فينا كما تمر أبيات الشعر التي يرددها الناس نحو "ومعظم النار من مستصغر الشرر" أو "مصائب قوم عند قوم فوائد" أو "من راقب الناس مات غما"، وهذه كلها أشطر من أبيات شعرية كاملة، وقد لا يعرف كثير من الناس الشطر المكمل للبيت، ولكنهم يتناقلونه للحكمة التي فيه، لا لأسلوبيته العالية أو لقائله أو لمعنى بلاغي فيه.
وقد استشعرت معنى العبارة "الشعر ديوان العرب" بمعناها الحقيقي حين قرأت ديوان النقائض بين جرير والفرزدق، أشهر شعراء الدولة الأموية، وهو الكتاب الذي ألفه وجمع أشعاره وشرحه إمام العربية والمقدم فيها أبو عبيدة مَعمر بن المنى التيمي البصري، ويقع الكتاب في جزأين بطباعة فاخرة عن دار صادر وتحقيق رائع جميل، يبتدئ أبو عبيدة كتاب النقائض بذكر أول قصيدة قالها جرير وسبب قوله لتلك القصيدة، وكان ابتداء هجائه لبني سليط ثم يهجو البعيثَ خِداشَ بن بِشر، إلى أن يأتي على أول المهاجاة بين جرير والفرزدق، وفي ذلك قصة طريفة ذكرها أبو عبيدة في كتابه، ومما يزيد الكتاب بهاء وجمالا أن أبو عبيدة لا يترك بيتا دون ذكر سبب قوله أو الوقعة التي يذكرها الشاعران في قصائدهما، وأثر ذلك البيت أو معناه اللطيف مع ذكره لنوادر متضمنة لذلك البيت أو لمجموعة الأبيات التي يوردها لجرير والفرزدق.
هذا الكتاب البديع ليس كتابا في الشعر فحسب بل هو سجل وافٍ لمآثر العرب وأيامهم وأنسابهم، فنجد جرير يهاجي الفرزدق بذكر يومٍ من أيام العرب المشهورة التي لم تبل فيها قبيلة الفرزدق بلاء حسنا، فيرد عليه الفرزدق بذكر مثالب قبيلة جرير، وفي هذا كله شهادة للشاعرين عظيمة، فلو كانا من شعراء الغزل الصِّرف لكان ذلك هينا سهلا، ولكنهما عالمان بوقائع التاريخ يذكرانهما في المهاجاة بينهما في سياق لطيف ومسلك سلس سهل، فلا يشعر القارئ بأن تلك الأبيات متكلفة خارجة عن عذوبة الوزن وموسيقى الشعر. هنا استشعرت حقيقة الديوان التي ذكرتها، فهذا الكم الهائل من المعلومات التاريخية المفصلة، لا يقوله عالم بالنسب أو التاريخ، بل يقوله علمان من أعلام الشعر العربي على البداهة ومن غير تقعر في القصيدة. وما أعظمهما من شاعرين، فالنقيضة هي أن ينقض الشاعر قصيدة منافسه، بقصيدة على نفس حرف الرويِّ والقافية والبحر الشعري، وقد تتبع أبو عبيدة الوقائع والأسماء الواردة في قصائدهما تتبعا يثير الدهشة، فهو يخبر القارئ عن نسب فلان الذي ذكره جرير أو الفرزدق وعلاقة هذا الشخص بأشخاص آخرين ذوي شهرة ومكانة، وعلاقته بالقبيلة الفلانية أو الملك الفلاني أو الحدث الفلاني كذلك، ولا يتحرج أبو عبيدة حين لا يعرف اسم شخص ورد ذكره في القصائد من أن يقول بأنه سأل العالم الفلاني أو الحافظ الفلاني عنه ولم يجد له نسبا أو ذكرا في أمانة علمية صادقة، يخلص المرء بعد قراءته للنقائض إلى أنه ينبغي على الشاعر أن يكون ملما بالتاريخ وبعلوم أخرى تساعده في تكوين شعري جيد غير مهلهل، ويذكرني هذا برأي حسين مُروَّة حين سأله عباس بيضون في سيرة حسين الذاتية عن بدوي الجبل، حيث إنه عاب عليه أنه لم يكن يقرأ فكان ذلك مثلبة لشعره الذي يشبه الدوران حول نفسه.