دولة ناقصة... وطن كامل
كاميرا العدو كانت ترصد المشهد من فوق - هل شاهدت جون رامبو الأمريكي من قبل؟ حسنا إليك آخر صيحات القتل الفلسطيني على شاشة الأخبار: سقط الفدائي الأول ليبزغ مكانه من غيب الصورة فدائي آخر يرث بندقية الأول ويشتبك لأقل من عشر ثوانٍ، عشر ثوانٍ فقط، قبل أن ينهره الرصاص الثقيل - هل شاهدت الفيديو الذائع عن استشهاد فدائيين مجهولين على سطح بناية في جباليا؟ أجل، ولذا أعتقد بأنني في حاجة إلى وقتٍ طويل حتى أعود لتقبّل السينما، سينما الحرب الأمريكية تحديدا. بماذا شعرت؟ شعرت بالخوف في البداية، الخوف على نفسي، ثم أعدت تشغيل الفيديو ثانيةً. وبماذا شعرت؟ شعرت بالخوف أكثر على نفسي حين أحسست بالفتنة. الفتنة؟ نعم، فتنة الألم! وماذا بعد؟ خفت أن ينهض الشهيد الجريح إلى مهمته مجددا فيشدّ أعضاءه على الجدار ثم يبادر من جديد. تخيلته يقف على الكسر ليدافع عن جراحه الراعفة بما تبقى في دمه من خبز وماء، وبما ادخر في سلاحه المفرد من طلقات، قبل أن يسرقه نعاس الموت من جسده المنهار. وتساءلت كيف لنا أن نرحم هؤلاء الفتية من مهمة الوطن؟ هذا سؤال لا يمكن أن يلقى رواجا هذه الأيام لأنه ببساطةٍ يتنافى مع طبيعة الدم، لأن الدم مصابٌ وراثيا بالوطن الوراثي. فمن يرحم هؤلاء الفتية الذين لا يرحمون أنفسهم من إدمان الوطن إلى هذا الحد؟!
أقل من ثلاثين ثانية كانت تكفي لأختنق بتاريخ لا هدنة فيه لالتقاط الأنفاس. من هؤلاء الفتية الذين يدقون باب المؤرخ في الليل بلا وجوه ولا أسماء ولا عناوين شخصية؟ يسرقني مطلع أغنية بعيدة: «ما بعرفن ما شايفن/ لفوا وجوهن بالقهر/ خبوا سلاحن في الوعر/ خبوا أساميهن/ ما في حدا بيشوفهن/ إلا إذا ماتوا». من هؤلاء الفتية المداومون لأربعٍ وعشرين ساعةً يوميا في واجب الوطن بلا مرتبات ولا ترقيات؟
تحتاج المرتبات والترقيات إلى وظائف، والوظائف بحاجة إلى مؤسسات، والمؤسسات بحاجة إلى دولة. قيل لهم إن الوطن ليس مسؤولا عن توفير الوظائف والمنح الدراسية، تلك هي مسؤولية الدولة، الدولة التي لم تتحقق بعد بما فيه الكفاية، ولا بدّ أنكم تدركون طبيعة الفارق بين الدولة والوطن: الوطن هو مجاز الدولة، فارجعوا إلى المخيّم.
قبل ثلاثين سنة كانوا أطفالا يكبرون في أزقة المخيمات. وربما كان بعضهم لا يزال فكرة في خيال أبيه. قبل أكثر من ثلاثين سنة كان المفاوضون -المنعّمون بثروة الثورة المحتضرة- يتبادلون نكاتا محلية الصنع وشيئا من القصص العائلية في محاولة لـ«كسر الجليد» مع ممثلي العدو في ذلك الشتاء النرويجي. لقد ذهبوا إلى هناك عبر قناة سرية باحثين عن دولة على هوامش من جغرافيا الوطن، فرشوا الخرائط على الطاولة، تفاوضوا على الحدود، على مصادر الماء وعلى الصادرات والواردات وعلى الضريبة الجمركية، وتفاوضوا على المقدّس أحيانا، لكنهم سرعان ما اكتشفوا حجم التباين بين ما يريدون وما يراد لهم. بدأ الود المصطنع يتلاشى، تشاجروا على مناطق النفوذ ونقاط التحكم والسيطرة. فجأة اتضح أن الحقائق على الأرض قد سدّت أفق النقاش، فتعطّلت المفاوضات لينفضّ الطرفان عن الطاولة حازمين حقائبهم - لكن نكتةً جديدةً على الباب، نكتة محايدةً هذه المرة، دبّت بينهم فجأة فتصاعدت منهم قهقهة متوترة أعادت الطرفين المتحاربين لاستئناف المفاوضات على الطاولة.
في المخيم، قبل ثلاثين عاما، كان الآباء والأمهات يوصون أطفالهم بالعودة. لم يشر أحد بالعودة إلى أين؟ أو إلى ماذا؟ لا أحد يعرف بالضبط ما هو المعنى المادي لهذه الكلمة؟ لقد أرادوا أن يعرّفوا حقهم في مرافعة الضحية أمام محكمة التاريخ فلم يجدوا أوضح من هذه الكلمة: العودة إلى أي شيء أول، والعودة حقٌّ كالشمس. في ذلك الوقت كان المفاوضون على التراب قد توصلوا إلى صيغة أولية تعد بشبه دولة على هيئة نشيد يرفرف فيه العلم ومؤسسات وشرطة مدربة وأجهزة أمن، ولكن ما كان يهم أبناء المخيمات هو ما اتضح لاحقا بأن المرور إلى تلك الصيغة المشوهة من الدولة لم تكن ممكنة إلا على حساب التنازل عن قضيتهم كلاجئين، أو تسويفها على الأقل. كانت الدولة الموعودة ناقصة منذ البداية، ناقصة لأسباب كثيرة أهمها أنها تحتكر هوية وطنية لا تشمل كل الوطن، إلى حد أسفر على مدى العقود الماضية عن تناقض حاد بين المفهومين المتخيّلين، الدولة والوطن. فأي دولة ممكنة بلا تحرير تحمل في مفهومها، بالضرورة، خيانة للوطن المحتل، الوطن الذي يستشهد من أجله الآن جيل من الفدائيين المتحررين من انضباط الجيوش النظامية، جيل يتجاوز عقدة الدولة إلى نزعة الوطن المكتمل.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني