دماء الكتب
«الأدب الجيد -حقا- هو ذلك الذي يحفر فينا أثرا نتبعه دون أن ندرك كنهه، فيحملنا إلى عوالم أخرى، ولا يتركنا إلا متوهِّجين. إن له قدرة لا تُضاهى على إقناعنا بأن ما هو مكتوبٌ أكثر واقعية من الواقع نفسه. فيَنفُذُ إلى الأرواح ويسري في دواخلنا حتى يبلغ أماكن من الذات لا يبلغها الدم نفسه». سانتياغو بوستيغيُّو.
بهذه الكلمات المتقدة حرارة وصدقا، يستهل الجاحظ الإسباني الجزء الثاني من سلسلته «تاريخ الأدب المنسي»، وكل جزء من هذه السلسلة يدور في فلك بعينه لا يدخل في مسار الجزء الآخر منه فيمكن قراءة جزء منها دون قراءة الجزء الآخر، أو البدء بالجزء المتأخر قبل المتقدم، وهكذا دواليك. ولنتعرف على مؤلفنا المبدع، فهو عالم لغة أديب وروائي وأكاديمي إسباني موسوعي فذ. وما جعلني ألقبه بالجاحظ الإسباني، هي بلاغته المتمثلة في التراكيب البديعة للجمل والتي يشعر المرء وهو يقرؤها بأنه يقرأ شعرا لا نثرا، كما أنه يملك ذلك الحس الساخر الذي قد تمر عليه عيناك فلا تتنبه إلى مراميه، وقد تفعلُ فتمسك بطنك ضحكا، أو تفعلُ فتتميز غيظا!؛ إنه من ذلك النوع من المؤلفين الذي يختبر تركيزك، فيرمي في ثنايا الكتاب طعما ليرى إن كنتَ -القارئ- ستبتلع طعمه أم أنك ستتنبه إلى ذلك الطعم. كما أن موسوعيته الفذة أتاحت لنا أن نقرأ هذا العمل الرائع بتفاصيله الثرية، وكل هذا لن ولا يتحقق بطبيعة الحال إلا إن كان المترجم على قدر كبير من البراعة والمعرفة؛ ومترجم هذه السلسلة هو الكاتب والناقد السينمائي الأستاذ عبداللطيف البازي، الذي يُشعرك بأنك تقرأ نصا مكتوبا بالعربية من أساسه لا أنه تكبد عناء الترجمة ومشقتها.
يقع الكتاب في مائتين وثمانية وثلاثين صفحة من القطع المتوسط، وهو كتاب عن الكتب والمؤلفين بطبيعة الحال. وفي الحقيقة فإنني وجدت لبسا في عنوان الكتاب، فكما يقول مؤلفه في استهلاله «يقترح كتاب (دماء الكتب) على القارئ رحلةً مختلفة عبر تاريخ الكتابة. فوراء العناوين التي سيزورها في هذا السفر عبر الزمن، ثمة حالات التباس وألغاز، وثمة دماء تنز بإيقاع متواتر: إنها دماء الكُتَّاب التي تسيل في صمت بين أسطر كتبهم. وفي طريقنا ستفاجئنا أحكام بالإعدام، وقبور ضائعة، ومبارزات بالسيوف في عتمة الليل أو تراشق بالرصاص فوق الثلج الأبيض...». لكنني وإن وجدت في كثير من أجزاء الكتاب ما يتحدث عنه المؤلف هنا، فإنني لم أجده في مواضع كثيرة أيضا. لكن ما يشفع للمؤلف أن كتابه كله بديع إلا في مواضع لا أتفق فيها معه بتاتا، كالفصل الذي عن ديفيد هربرت، المشهور بـ «دي إتش لورانس».
سيتعرف القارئ عبر هذا الكتاب على عديد من الكتب والمؤلفين المهمين، ولن يعدم فائدة أو طرفة، أو نقدا لاذعا نثره بوستيغيُّو في ثنايا كتابه. وحتما سيجد القارئ بأن المؤلف متأثر بحال بلده المنتمي إلى الاتحاد الأوروبي وما يمر به من تحديات، والتوجه البريطاني ونقده اللاذع والمتكرر لبريطانيا مع أمريكا باعتبارهما قوتين استعماريتين سابقة وحالية. فعلى سبيل المثال ولدى حديثه عن بتراركا وشيشرون «نحتاج إلى شعر الأول وخطابات الثاني ليُخَلِّصا الكلمات من أفواه سياسيِّين يقومون بتعذيبها حتى يرغموها على الاعتراف بمعان لا تملكها» في سياق نقده السياسي. أو أن ينتقد التكلُّس الأكاديمي بفعل التأطير والأحكام المسبقة -متحدثا عن طلبته مادحا إياهم- «سيقول العديدون إنه من الطبيعي أن يعجز الطلبة عن رصد الفروقات. فعلا، فهم تنقصهم الأحكام المسبقة. وهذا هو الأمل». فبسبب الأحكام المسبقة لم يتم الاعتراف ببيسوا العبقري عند الإنجليز ولم يعدوه من كتّابهم -رغم أنهم عدوا كونراد ونابوكوف غير الإنجليزيين من كتّابهم- لكن المؤلف يمتدح بيسوا ويثني عليه ويوضح عبقرية بما لا يدع مجالا لا للإنجليز ولا لغيرهم أن ينتقص من أحد أعمدة الأدب في القرن العشرين.
حسنا، لم تقتصر عبقرية المؤلف على السخرية اللاذعة فحسب، بل له عبارات تشعر أمامها بالدهشة من تراكيبها اللغوية الفاخرة، وبلاغتها العالية، ففي أحد الفصول التي يتحدث فيها عن فرنسا واستنجادها بأحد الكتّاب ليؤلف لها رواية وهي في خضم الحرب، «مر زمن طويل على تكليف رئيس فرنسا كاتبا إسبانيا بكتابة روايةٍ، من أجل الفوز بحربٍ.... مرَّ زمن ولم تنته الحروب، فهل ما زال هنالك من يستنجد بالكُتّاب؟». ففي هذه العبارة من الغصة والألم ما يذكرنا بكل الحروب التي خاضها الإنسان، حروب الدم والكتابة. ومن عباراته المذهلة رغم سياقها المؤلم، «لكنه فعلها، لأن الأدب لا يتوقف عند حدود الموت».
نعم، إن الأدب والكتابة لا يتوقفان عند حدود الموت؛ سواء موت المؤلف أو موت النص نفسه -الإحراق، المنع، الإتلاف- فهما يعودان ولو بعد قرون طويلة، كما تعود المومياوات المصرية من تحت الأطنان الرملية والأحقاب المتعاقبة. سيتعرف القارئ على قصص وأحداث يشعر فيها وكأنه يعيش في عصور الخيول والمبارزات، أو الجليد والصقيع، أو الألم والكتابة؛ لكنه حتما لن يعدم فائدة، أو متعة، أو طرفة لاذعة. هنالك كتب نقرؤها لأجل موضوعها، وهنالك كتب نقرؤها لأجل قلم مؤلفها المميز والبديع، وأعتقد أنني سأقرأ لبوستيغيُّو كل ما سيترجم له فصاعدا خصوصا إن كان المترجم عبداللطيف البازي.
علاء الدين الدغيشي كاتب وشاعر عماني