دفتر مذيع :صوت السوق
صوت السوق
للسوق صوت، بل أصوات تصل حد الجلبة، التي لا نفند منها شيئا.. استوقفتني هذه الحالة وأحاول تقديم بعضها، كل على حدة، وسأترك أخرى لنصوص خاصة، تكملة لمشاهد سوق مطرح بمدخليه، البري الداخلي الذي تطل قوافله من بين الجبال برغاء الجمال وهدير بعض السيارات، والبحري الذي يربطه بالعالم الخارجي عبر خطوط الملاحة الدولية، لتلقي مراسيها عند الفرضة فيعلو صوت الموج المتلاطم، وتعلن صافرات المراكب تحيتها.
خبر دار.. بالك
خبردار خبردار خبردار.. تنطلق من مقدمة الجاردي (العربة).. هي عربة خشبية طويلة قوية، بإطاريّ سيارات يتقدمها رجل مفتول العضلات، يمسك بمقبضين متوازيين شديدين، وقد مرر فوق أحد كتفيه حبلا قطنيا متينا يعينه على جر عربته، وعلى الكتف الأخرى تتدلى فوطة لمسح العرق. وقد يرافقه مساعد، إذا كانت الحمولة كبيرة وعالية ليراقب جوانبها ويحفظها من السقوط. وكلما شعر أنه يمكن أن يصطدم بأحد، يردد: خبر دار.. بالك بالك بالك (خذ بالك).
يرى البعض أن العبارة أتت من جوادر، ومعناها العام وليس بالضرورة الترجمة الحرفية: انتبه، أو خذ الخبر، أو أتاك الخبر.. ولعلها العبارة الأكثر ترديدا في السوق حتى أصبحت مصطلحا، ولو من باب المزاح، لتنبيه المتحدث بأن يحاسب على كلامه، أو يلفت انتباهه لشيء ما.
أنادي.. أبيع
في الحراج، منصة عند ملتقى الطرق.. يقف مناد كفيف ذو صوت جهوري، وقد تحلق الناس حوله.. من طرائفه مثلا أن يمسك بيده إناء معدنيا صغيرا، وعلى الأرض قِدْرٌ كبير، مرددا: (أنادي.. أبيع.. المرجل بميتين بيسة، والملّة بثلاثين ريال!! وما أبيعهن غير رباعة) في محاكاة واضحة لقصة الأعرابي والجمل والقطة، مع اختلاف الهدف.
انجيز
في الستيشن (محطة سيارات الأجرة) التي انتقلت من وادي خلفان إلى الشجيعية، وقبل أن يكون لسيارات الأجرة لون خاص: روي روي روي.. وآخر: السيب السيب باقي واحي (واحد)..: وحدك وا انجيز (Engage)؟؟ أي تركب مع آخرين أم تأخذ المشوار على حسابك؟ وفي الزاوية بعض الخلاف على النول (الأجر) أو على سعة حقيبة السيارة لأنها لا تكفي لسحّارة العبري (سحارة = حقيبة حديدية مختلفة الأحجام.. العبرية = المسافرون أو الركاب).
تمبر
عربة صفراء تابعة للبلدية بحجم سيارة صغيرة. تشبه قليلا التراكتور أو الحراثات، يبدو أنها أخذت اسمها من صوتها الذي يبقبق كثيرا حد الإزعاج.. تجمع قمامة السوق في وعاء كبير نسبيا مفتوح في مقدمتها، يجلس خلفه سائق لا يُلام إن صدر منه أي تذمر، فرائحة القمامة وصوت التمبر، والدخان الذي ينفثه محركها، وضيق الأزقة وزحمة الناس، كفيل بنرفزته. ومع هذا يتبادل جملا سريعة وطرائف مع أصحاب المحلات وبعض المارة.
حل تراب
حمار ودود يجرّ عربة بعجلتين، فوقها خزان أسطواني أصفر مائل للخلف قليلا.. لنهيقه نغمة مميزة ربما حفظها أهل السوق، تتمازج مع صوت إبريق وكوب معدنيين كبيرين معلقين في الخلف على بلولة (صنبور) يُستخدمان كمكيالين، ينقران بعضهما محدثين نغمات عشوائية، تعلن عن بائع الحل تراب (كيروسين أو جاز).. صاحبه يبدو رحوما به، فلم أره ممتطيا إياه.
دروازة مطرح وصوت الحروف
دروازة مطرح بوابة تاريخية، يلتصق بها جدار متين عالي الارتفاع من جانبيها، وهي هنا قريبة من الجبل الذي ينتهي جدارها عنده، حيث ظهر أول أو من أوائل محلات السوبرماركت، وفي قمته برج واضح كما هو الحال في الجبال الأخرى المحيطة..(الدروازة الموجودة حاليا رمزية جدا مقارنة بالأصلية التي كانت أكبر بأكثر من الضعف).. إنها مغروسة في ذاكرة المطرحيين، حتى غدت جزءا من ألعاب صغارهم وأهازيجهم الشعبية. أوحت للصغار-وخاصة البنات- بلعبة ظريفة، تتقابل فيها اثنتان تفصل بينهما مسافة قصيرة رافعتين يديهما لتلتقيا في الأعلى على شكل قوس بينما يمر الباقون من تحتها مرددين (دروازة مطرح.. تمشي وتطرح)... كنت في السوق وقت سقوطها، والأرجح أنه وقت الظهر. ركض والدي مع الناس للمساعدة، خشية أن تكون قد تهدمت فوق رؤوس الموجودين، وحذرني من مغادرة الدكان.. افتقدَها المكان ردحا من الزمان، ولكنّ بقاءها في الذاكرة جعلها تنهض بشكلها الحالي ربما لتكمل تعداد الذين دخلوا المدينة أو خرجوا منها علنا أو خلسة.
أما الأصوات التي تكاد تسمع حتى من خارجها فهي الآلات الكاتبة.. لها نقرات مميزة تنتهي مع نهاية كل سطر بصوت مختلف بسحبة من آخر السطر لبداية سطر جديد مثلما يفعل عازف البيانو ممررا إصبعه على كل الأزرار، ما يصطلح عليه الموسيقيون بـ(كورماتك). فهنا كان يعمل بضعة عمانيين. أرجح أن بجانب كل واحد منهم حقيبة بها دفتر مسطّر، وورق كربون لمن يطلب أكثر من نسخة، وشريط حبر احتياطي مزدوج بلونين متوازيين، أسود وأحمر، وربما لدى بعضهم أظرف وطوابع بريدية، ينجزون المعاملات والمراسلات. أي أنهم يقومون بدور مكاتب (سند) اليوم، ولكن من دون كمبيوتر أو إنترنت.
سوق الذهب
في خط متصل بسكة الظلام محلات متقابلة، وورش ضعيفة الإنارة عدا بقعة صياغة الذهب والفضة، لا تخلو هذه السكة من أصوات ناعمة بنعومة الحلي، بصوت مطرقة صغيرة نقراتها متقاربة. ومع منفاخ النار وصوت اللهب تتحسن الإضاءة بشكل متقطع، وربما صوت بعض مكائن سحب السبائك.. من هذه الورش تخرج أجمل الحلي، لتبهج النساء والرجال والمعاريس.
سوق المواشي والأعلاف
هنا تتداخل أصوات المواشي مع أصوات المنادين، مع جدال يحتدم أحيانا بين البائع والشاري والمنادي.. ويمكن رؤية فصائل جديدة من المواشي قادمة من الخارج، سيبدأ انتشارها في بعض الحارات. يشبهه قليلا كبرة الخضرة والفواكه.
المسحر
هذا الصوت الذي نسمعه في السوق مرة واحدة في السنة، نهاية رمضان
أو بعده مباشرة، حاملا طبله ضاربا الإيقاع نفسه الذي كان يوقظ به الناس كل ليلة. فيسهم التجار والموجودون في السوق بما تيسر، مكافأة له على سهره طوال الشهر الكريم.
أصوات للبيع
هنا يبيعون أصواتا يطلبها كثيرون.. إنها محلات الأشرطة السمعية وهي قليلة حد الندرة.. فرغم أنه لم يكن أحد يتحدث عن حقوق الملكية الفكرية إلا أن المحل أو الاستديو يحرص على وضع اسمه - صوتيا - ضمن المادة الصوتية مثل: (خدمات غالب الإلكترونية) (سالم فون) (ويلس - واير لس Wireless).. في هذه الفترة بدأت تتراجع القوانات (الإسطوانات الدائرية ويسميها البعض سحن أو صحنا) وأجهزتها (السنطور أو البشتختة أو الجرامافون) لتحل محلها أشرطة الكاسيت، حتى إن بعض السيارات ما زالت من دون مسجل. وربما اختفت مع تلك النقلة تسجيلات من ذاكرة الموروث الغنائي الشعبي. وكلاهما (القوانات والكاسيت) هي اليوم مادة متحفية.
ماي بارد وقهوة ساخنة
متجول يحتضن جحلة (آنية فخارية تبرد الماء) يعبئها من بئر خارج السوق ثم يردد في الطرقات: (ماي بارد - ماي - ماي ماي ماي ماي). قد يستفزه أحدهم: ماي الحب أبرد (الحِب، آنية ماء كبيرة فمها كبير يغطى بلوح خشبي).
لا ينافسه سوى صوت فناجين القهوة (بو نخلة وغيرها) تتقارع بنغمة مميزة في اليد اليمنى لبائعها، وفي اليسرى إبريق معدني كبير تلتصق تحته حاملة الفحم المثقبة للمحافظة على سخونتها، وسحلة أو صحلة (آنية لغسل الفناجين). وليس سهلا أن تحظى بقهوة بتلك الجودة في مكان آخر. كان والدي يحتفظ بفنجانه الخاص في الدكان. فأسمع المقهوي وهو يقترب: فنجانك علي بن صالح، قهوة ترد الراس. ويكمل مازحا: بعدك تقزّ من فناجيني؟؟ فيرد عليه ضاحكا: غنّم ولا تسوي هوره، وترسه على شخط الكافر (خط يؤطر الفنجان من الداخل).
صوت السكينة
أما الصوت الأجمل، الذي يتردد 5 مرات في اليوم، فهو صوت الحق (الله أكبر).. ولن يغلق باب المحل وقت الصلاة، وإنما تكفي قطعة قماش تغطي الواجهة، كتنويه بأن المحل مغلق للغداء أو الصلاة، ليختار المصلي المسجد الذي يريحه، عندما تتعطر الأجواء بهذا الصوت، من مسجد الرسول الأعظم، ومسجد الشريشة، ومسجد السوق، وغيرها.