دفتر مذيع :سامبا والفرقة والمغامر المغمور
ما زلتُ في مدرسة حسان بن ثابت بمنطقة بيت الفلج.. بين عامي 75-1977م. بعيدة كثيرا عن بيتنا في مطيرح.. اشترى لي والدي سيكل بيلون 24 (نوع من الدراجات الهوائية) حمراء اللون، بعدما حققتُ شَرطَهُ بأن يشتريه لي إذا نجحت في الصف الخامس. شعرت أنني امتلكت سيارة فارهة. والغريب أنه سمح لي بأن تكون هي وسيلة نقلي إلى المدرسة رغم بعد المسافة، وخوفه الشديد علي! يبدو أنه لم يجد وسيلة أخرى أفضل منها.. أذكر أنني قبل حصولي على هذه الدراجة كنت مثلا أبحث عن وسيلة للعودة في بعض الأيام وأوقف أي سيارة تعيدني للبيت. في أحد الأيام وقفت لي فتاة حسناء ودعتني للركوب وتكرمت بتوصيلي. ربما لو كنت أكبر قليلا لم تكن لتقف لي. ولكن لماذا لم أنس هذه التوصيلة إلى اليوم؟! لأنها المرة الأولى التي أركب فيها سيارة مكيفة، كانت البرودة داخلها كفيلة بأن تأخذني لنوم عميق بعد تعب يوم دراسي، فما زالت المدارس بلا مكيفات. وكثير أو معظم السيارات حتى ذلك الوقت من دون مكيفات.
أما التوصيلة الأخرى التي لا أنساها فكانت مع عمي حمود (ابن خال والدتي)، عندما رآني صدفة خارجا من المدرسة فوقف ليردفني خلفه على دراجته النارية العملاقة ذات الألف cc.. قال لي قبل أن ينطلق: تقبّض زين. وانطلق مسرعا كأنه يتعمد إثارتي.. شعرت أنني أمتطي بساط الريح. عمي حمود هذا كان يعيش بقناعاته هو وليس بالضرورة بقناعات المجتمع إذا لم يناسبه شيء. وكان بسيطا في طريقة حياته. متدفقا بالحديث والحكايات فلا يمل من يجلس معه من الحكايات والمعلومات. ربما كان بإمكانه شراء سيارة بسيطة بنفس سعر هذه الدراجة تقريبا، ولكنه فضل الدراجة، بل من حبه للدراجات فقد كان يملك دراجتين.. وكان يمتطي الدراجة حتى للأماكن البعيدة بما فيها قريته في إبراء، وترافقه زوجته أحيانا.. سألته مرة وكأنني مستنكر: وتشلّ خالتي في الدراجة؟!! فرد وقد أفحمني: يوم كان على حمير كان يستوي، وتو ما يستوي؟! كما كان يسافر إلى العين بإمارة أبوظبي في زمن كان فيه الشارع ما زال ترابيا!... أما مغامرته الكبيرة بدراجته النارية، فكانت إلى صلالة، أيضا في ظروف الشارع الترابي.. قام بهذا الإنجاز وبرفقته شخص يلقب سعيد الطويل، وهو اسم على مسمى، فقد رأيت البقعة البيضاء داخل سقف سيارته أعلى رأسه، حيث كان شعر رأسه بمثابة فرشاة لا تعطي لهذا المكان الفرصة ليتسخ أو يتغير لونه، وقيل إنه في فترة من الفترات أخرج كرسي السائق ليكون جلوسه وهو يقود السيارة مرتاحا في المقعد الخلفي. (لا أجزم بدقة هذه الرواية).. سمعت جزءا من تفاصيل تلك الرحلة العجيبة من صاحب الدراجة شخصيا، وتفاصيل أخرى من آخرين. وصَفَ دراجته في الرحلة بأنه لا يكاد يُرى منها سوى المقود والجزء السفلي من الإطارين، وبدت أعرضَ بكثير من حجمها الحقيقي الكبير أصلا لكثرة ما عُلّق فيها من الزاد والحقائب والفرش وعبوات الوقود والاحتياطات الأخرى، لأن الطريق من بعد الداخلية ولمسافة حوالي ثمانمائة كيلومتر غالبا بلا محطات وقود.. ولا توجد وسائل اتصال.. أتوقع أن تفكيره كان يقول: إذا تعطلنا في أي مكان سننتظر أي شاحنة تحملنا نحن ودراجتنا.. المحطة الوحيدة التي وجدا فيها الراحة والتي ربما أنقذتهم من أي مهلكة هي معسكر للجيش في منتصف الطريق تقريبا، بضوء شاهدوه من بعيد، حيث تم إيقافهم. فقد صدم الجنود عندما رأوهما، وهما شعث غبر من أثر الطريق، غير مصدقين أنهما قادمان من العاصمة!! مؤكدين لهما أنهما أول حالة تمر بهم..
قام الجيش باستضافتهما للمبيت في المعسكر تلك الليلة، وقدموا لهما الدعم الذي يحتاجانه لمواصلة الطريق.. كان سعيد الطويل محل بعض التعليقات اللطيفة في المعسكر لطوله اللافت خاصة عندما رآه بدوي وهو يوقظه وقد تغطى كاملا فناداه بصيغة الجمع معتقدا أن تحت الغطاء أكثر من شخص، وعندما انتصب واقفا طلب منه أن يشبره (يقيس طوله بالشبر) معلقا: (أبى أعالم بك).. ومن مواقفهما في الجبل أن سعيد شعر كأن الدراجة ستنقلب فوقف والدراجة تمشي ولم يشعر رفيقه بذلك إلا بعد مسافة قطعها.. لو قام هذا المغامر المغمور بهذه الرحلة بعد عدة سنوات، كانا سيجدان أي رعاية أو دعم من بعض الشركات، أو حتى من وكالة تلك الدراجة. أعتقد أن هذه هي أول -وربما آخر- رحلة من مسقط إلى ظفار على دراجة نارية في زمن الشارع الترابي، بتوقيع حمود بن سليمان المرجبي وسعيد بن علي المرجبي.
من ذاكرة مدرسة حسان أيضا أنه في طرف ساحة الطابور مقابل الإدارة كان يجري بناء خشبة مسرح بخلفيتها وكواليسها.. ربما هنا عرفت عن قرب لأول مرة معنى كلمة مسرحية وخشبة مسرح.. كنا نتابع البناء يوميا، ونتطفل بالاقتراب، لمعرفة ما يجري حتى اكتمل المشهد، وبرزت كلمة (سامبا) كبيرة بحجم الخلفية تقريبا.. لا أذكر أنني حضرت العرض ولكنني شاهدتها في التلفزيون (تم تصويرها في استوديو التلفزيون) وكنت أفاخر بأن هذا العمل كان في مدرستنا، وحفظت الأغنية التي غناها الفنان موسى جعفر (لاحقا د.موسى جعفر مندوبنا الدائم لدى اليونسكو، رحمه الله) يردلي سمرا قتلتيني، قبل سماعي لها بصوت الفنان العراقي سعدون جابر.. أما الأغنية الأخرى التي علقت في الذاكرة فهي التي تحمل اسم المسرحية: (سامبا، سامبا حبيبي سامبا، وعطاني وردة.. أسمر ولعني بحبه ومشاني دربه..).
في حكاية أخرى في الفصل أسرّ لي صديقي علي الهاشلي، بأنه وأخوه سعيد وجارهم محمد الجابري، وسعيد الجابري قد تم اختيارهم لفرقة موسيقية خاصة بجلالة السلطان، وقال لي بأن جلالته قابلهم وتحدث معهم ولاطفهم واختبر مواهبهم الموسيقية.. شعرت أنه يؤلف حكاية من خياله، فنحن صغار لم نتجاوز الثانية عشرة من أعمارنا فكيف يكون له ذلك! ولكنني من ناحية أخرى أثق به ولم أجرب عليه إلا الصدق. أكد لي على الموضوع أكثر من مرة.. ولم تمض سوى سنوات قليلة حتى رأيتهم جميعا في ما عرف آنذاك بالفرقة الشرقية السلطانية الخاصة، وهم يعزفون على تخت شرقي متكامل، ورأيت زميلين من سكان مطرح على الإيقاعات هما منصور وأحمد، ليسجلهم التاريخ الموسيقي في عمان بجانب زملاء لهم في فرقة موازية في صلالة روادا موسيقيين لهذه الفرقة، التي أسهمت في إحياء العديد من الحفلات الوطنية، وتسجيل الأغاني، والعزف في مناسبات القصر السلطاني، خاصة بحضور ضيوف جلالة السلطان.. ولعل الصورة تتكرر مع فرقة الأوركسترا السلطانية العمانية، التي تأسست كذلك بأطفال صغار شكّل ظهورهم الأول مفاجأة حقيقية، وهم يعزفون لكبار الموسيقيين العالميين في انسجام (هارموني) لافت، إلى أن أصبحوا عازفين كبارا، يبدعون في أكبر الصالات العالمية.