دفتر مذيع : تلفزيون عُمان الملون «1»
العام 1974م.. يتبادل المجتمع حديثا عن قرب بدأ البث لمحطة تلفزيون وطني.. معظم الشعب لم يشاهد التلفزيون من قبل، إلا من عاش بعض الاغتراب، وبعض الأسر الموسرة، تعلو أسطح بيوتهم أريلات (مستقبلات البث) لمشاهدة ما يمكن التقاطه من محطات بعض دول الجوار.. ولم نعرف هذا الجهاز إلا ببعض الأوصاف المتفرقة، وبأنه يشبه ذلك الراديو الكبير إلا أن واجهته عبارة عن شاشة للمشاهدة، وأننا من الآن سنرى أولئك الذين نسمعهم في الراديو رؤيا العين!!.
قبل انطلاق البث بأيام، بادر سعيد بن حمود- وهو شاب بمقام أعمامي يسكن معنا في نفس البيت، ويعمل في مطار السيب الدولي الذي افتتح حديثا، وكهدية ومساهمة منه للأسرة - إلى شراء أول جهاز تلفزيون في العائلة.. ذكّرتُه مؤخرا بهذا الموضوع فقال: اشتريته بمائة وستين ريالا، أي بضِعف راتبي الشهري آنذاك! كنت أعزب ومسؤولياتي قليلة، وقد واجهتُ بعض التحفظ، ولكن وضعتهم في الأمر الواقع.
مفاتيح التلفزيون تشبه قليلا مفاتيح ذلك الراديو. إذا فلن يكون البحث معقدا. أما مصطلح (الريموت كونترول) فليس مطروحا حتى الآن في أي جهاز، فهو اختراع سيأتي لاحقا، سواء لجهاز التلفزيون أو أي جهاز آخر كالمكيفات وغيرها.. والظريف أن ظهوره الأول لم يكن لاسلكيا، وإنما بسلك ممتد حوالي مترين أو أكثر من جهاز الفيديو المنزلي. أي أن طول السلك يحدد المسافة التي تبعدك عن الجهاز.. التلفزيون مزود بهوائي في رأسه، من (عصايتين) معدنيتين تطولان وتقصران بتداخل أجزائهما، ويمكن تحريكهما في كل الاتجاهات تقريبا لالتقاط الإشارة، قيل لنا إن إحداهما مختصة بالصوت والأخرى بالصورة.
وأنه من أجل تثبيت القناة ستظهر على الشاشة شبكة على شكل مربعات صغيرة، فإذا ظهرت تثبّت عليها الأزرار، فهنا موقع القناة.. لم تُجدِ المحاولات مع الأريل الصغير فتم شراء الأريل الكبير، وبعد محاولة تركيبه على الأرض -وقد كادت قضبانه التي تكون عادة من معدن خفيف الوزن، تملأ الحوش- تشابهت عليهم القطع.
ولم يُحسم الأمر إلا بتدخل بطل القصة الذي اشترى التلفزيون، فهو يجيد الإنجليزية ويعرف كيف يوالف كل القطع بتتبع النشرة المرفقة.. قال له أحدهم مازحا: عاد صوّب زين.
رد: نحن نصوّب طيارات، ما بيمحنّا أريل (يعمل في برج المراقبة بالمطار)..
تم رفعه بعد اختيار المكان الأنسب، وتثبيته بقاعدة وبضعة حبال، في احتفائية تكاد تشبه رفع الشراع على سفينة تستعد للإبحار، أو كطائر خرافي محلق، فظهرت الشبكة.. وجود الأريل في سطح أي بيت لا يخلو من بعض الزهو، فبروزه يشي بوجود جهاز تلفزيون في هذا البيت.
وسيلقى التلفزيون اهتماما خاصا من حيث المكان الذي يوضع فيه، وربما سيكون سببا في شراء طقم كراسي فتتغير الجلسة الأرضية. ولا بد من قطعة قماش مطرزة و مزهرية بلاستيكية توضع فوقه وصورة عزيز غائب، قد تزاحمها لاحقا زجاجة عطر أو كريم ثم كوب فارغ أو شراب الكحة، أو حتى زجاجة داغوس نصف مفتوحة (شطة).. في كل بيت كانت تجري محاولات توجيهه الوجهة الصحيحة لالتقاط القناة، ويمكن أن تسمع وأنت في أحد الأزقة اثنين يحاولان التثبيت، واحد داخل البيت عند الجهاز والآخر في السطح، وهما يتعاونان ويتجادلان حتى تصل الصورة لأفضل درجة من النقاء
: يمين شوية.. صوب البحر.. لا لا لا رجع قدر صبعين
: تراك عذبتني
: خفّ يدينك عن الدفوشية
: تعال مكاني كان تروم
: بس بس بس، هبط.. صااااافي مرة
فيفخر الذي كان في السطح بإنجازه ويقول: (شوف كيف؟ كني أشوفك وتشوفني) بينما يزعم الآخر أن ذلك كان بفضل توجيهاته الدقيقة، وقد يتدخل ثالث كان بينهما وسيطا.. اضطر البعض لوضعه فوق أي جبل قريب، مثلما حدث ذلك في الدش لاحقا.
ليستمتع الجميع بالمشاهدة حتى هبوب أي ريح تحركه أو تطيح به أرضا وقد تصل الخسارة لدرجة شراء أريل جديد..
كانت نقلة مهمة ومريحة بظهور جهاز جديد (راوتر router) يركب على عمود الأريل ليتم التحكم فيه من داخل المنزل. بل تفنن الحدادون في صنع منصات يركّب عليها، أشهرها يحاكي برج ايفل الشهير في باريس.. بعد أيام استبدلت الشبكة بألوان مستطيلة رأسية ولون أحمر عريض أفقيا في الأسفل (color bars) ترافقه موسيقى وأغنيات.. بعد التشغيل تصبح الشاشة مدهشة بهيجة، لدرجة أننا نركز أحيانا حتى على سقوط نورها وألوانها على وجوهنا.
نجلس أحيانا لمشاهدتها رغم جمودها لعل شيئا يحدث فنشاهد شيئا غير مألوف. بل إننا أحيانا نشاهد حتى تلك الجسيمات البيضاء والسوداء الصغيرة المتراقصة التي تملأ الشاشة خارج وقت البث مرفقة بصوت (شششششششششش)، يحدث أن يتخلله صوت لمحطة إذاعية أو تلفزيونية تحاول التسلل. وسمعنا أحيانا مكالمات لاسلكية لأشخاص أو جهات خاصة.
في 17 نوفمبر 1974م انطلق بث التلفزيون.. واختير هذا اليوم كما هو واضح تمهيدا لليوم التالي، يوم العيد الوطني الرابع.. وأول شعار توّج الشاشة حمل اسم (تلفزيون عمان الملون) باللغتين العربية والإنجليزية، يتوسطه شعار الدولة. قد تبدو هذه العبارة بالنسبة لليوم ساذجة أو بدائية، ولكن بالنسبة لذلك الوقت فلها ما يبررها، فمن ناحية كانت تلفزيونات كل أو بعض دول المنطقة ما زالت تبث بالأبيض والأسود، لذلك يعد التلفزيون العماني مميزا جدا وله أن يفخر بذلك السبق. ولمن يبحث في المحطات فإنه إذا وقع على القناة العمانية فذلك إشعار له بأنها قناة ملونة فيتأكد من تضبيط جهازه إن كان ملونا.
وقد ظل ذلك الشعار فترة حتى تغير إلى (التلفزيون العماني) تتوسطه دائرة بألوان العلم، محاطا من الأسفل بغصني زيتون ومن الأعلى بشعاع على نصف دائرة، ثم (تلفزيون سلطنة عمان). وفي الألفية الجديدة (31/12/2015م) طرحت (الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون) آنذاك - وقد أصبحتُ أوصف بـ(من قدامى المذيعين)- هوية جديدة، لأتشرف والزميلة سهى الرقيشية باعتبارنا من (جيلين متكاملين) بتقديم كلمة في حفل افتتاح مجمع الاستديوهات الرقمية، وتدشين هوية الهيئة والقنوات الإذاعية والتلفزيونية التابعة لها، وتغيير شعاراتها، وإطلاق البث التجريبي لقناة عمان الثقافية، ليظهر شعار جديد بروح هذا العصر، يحمل كلمة (عمان) فقط.
كان الفارق كبيرا في أسعار أجهزة التلفزيون العادية، أي الأبيض والأسود، والملونة. ويمكن معرفة التلفزيون من أي النوعين حتى بدون تشغيله، فالملون عادة أكثر أناقة ولونه في الغالب أسود بواجهة خشبية، وبه قطعة صغيرة جدا ذات خطوط بالألوان الأساسية التي تنبثق منها كل الألوان.
أما الأجهزة العادية، فجسمها غالبا بلاستيكي ملون. ويبدو في ذلك ذكاء وتأثيرا نفسيا، فإن كانت الشاشة عادية فعلى الأقل هناك لون يكسو جسم هذا الجهاز ويكسر الرتابة. معظم الأجهزة في حجم صناديق الفواكه تقريبا، أحدب من الخلف، ويملك البعض أجهزة كبيرة وكأنها خزانة خشبية بأربع أرجل، ولها باب من مصراعين أمام الشاشة..
دخول التلفزيون كان أسبق من دخول الكهرباء في كثير من المناطق. فعلى من يود اقتناء جهاز تلفزيون أن يوفر بطارية سيارة جديدة أو مستعملة، وغالبا تشغّل الجهاز العادي وليس الملون.
ونظرا لأن التلفزيون حالة جديدة، وسعره غال، فقد وضعت الحكومة أجهزة تلفزيون في بعض الميادين العامة ليتمكن الجميع من المشاهدة، أذكر واحدا منها عند سوق السمك في مطرح، حيث نصب عمود يعلوه صندوق حديدي بداخله جهاز تلفزيون، يأتي شخص كل مساء لتشغيله فيتسمر المشاهدون أمامه بانتظار المفاجئات السارة اليومية للتلفزيون وكان بعض هؤلاء المشاهدين يأتون من مناطق بعيدة خارج العاصمة..
في كل الأزمان هناك من يشيعون معلومات خاطئة جهلا أو عمدا، وقد يأتي التعمد لأسباب بعينها. ومن ذلك، المعلومة القائلة أن لمس شاشة التلفزيون وهو يعمل وخاصة بيد مبلولة يؤدي إلى انفجاره أو تفتت زجاجه!! وصفه أحدهم: يستوي شروى فتيلة التريك (أي يتفتت مثل شمعة مصباح التريك). يبدو أن الهدف من ذلك حتى لا يقربه الأطفال أثناء الاستمتاع بالمشاهدة، غير أن الكذبة قد انطلت حتى على الكبار..