دفتر مذيع :المسيرة

13 ديسمبر 2023
13 ديسمبر 2023

مدرسة حسان بن ثابت، قرب بيت الفلج.. معظم ذكرياتي فيها من النشاطات الـ (لا صفيّة).. فأكبر ذكرى أحملها من تلك الفترة هي المسيرة.. إنه يوم 11/ديسمبر/1975م. عمري حوالي 12 عاما.. لست مستوعبا الحدث كما يجب، ولكن الكلام عن شيء اسمه (مسيرة النصر) ربما المرة الأولى التي تُتداول فيها كلمة (مسيرة) بهذا الحجم في المجتمع، ولا أعرف بالضبط عن أي نصر يتحدثون، ولكننا نسمع أن حربا كانت قائمة في مكان بعيد جدا من بلادنا اسمه ظفار.. ونشاهد في نشرة الأخبار في التلفزيون الذي أكمل عامه الأول أناسا بملابس عسكرية أو شبه عسكرية، وكأنها ميليشيات نظامية أو غير نظامية، في جبال وطبيعة لا تشبه الجبال الجرداء التي نعرفها هنا في الشمال، وإنما هذه بيئة خضراء وكأنها غابات. فقد كانت الملابس غالبا عبارة عن إزار وقميص بألوان غامقة أو مموهة، بينما آخرون بملابس عسكرية عادية كالتي نراها هنا وهناك، وربما لا أعرف حتى التفريق بين الفريقين.

وتتحدث الأخبار عن استسلام البعض للقوات الحكومية، ونسمع تعبيرات سياسية وعسكرية فوق مستوياتنا، وربما الكلمة الأشهر التي تتردد في تلك الأخبار هي (الشيوعية) متبوعة بأوصاف الكفر والطغيان ، وربما جرى التمرير لنا بشكل أو بآخر أو هكذا شاعت، بأن مجرد النطق بهذه الكلمة هي الدخول في المحظور وتخطي الخطوط الحمراء. كما يظهر في التلفزيون بين حين وآخر شخص يقدم اعترافات معينة، وتمر أسماء عرفت لاحقا أنها قيادات اليمن الجنوبي آنذاك، كما تُعرض بين فترة وأخرى الغنائم من الأسلحة والعتاد.. أما في الإذاعة فظهر لاحقا برنامج اسمه (رسالة عبر الأثير) يبدأ بمقدمة غنائية بصوت الفنان أحمد مبارك غدير مطلعها (أخي في عدن أخي في اليمن) يبدأ بعدها المذيع (عوض مقيبل) يكيل على الطرف الآخر الاتهامات وتعرية المؤامرات وما شابه.

كنت أستغرب كيف تقول المقدمة (أخي) في اليمن ثم تطلق أوصافا مناقضة، فبالكاد أبدأ استيعاب فكرة (الإعلام الحربي) أو (الحرب الإعلامية)، ولكن أشعر أن هذا المذيع يدير حربا من نوع خاص.. لم أتوقع أن بعد فترة سيصبح هذا المذيع صديقا جميلا وستجمعنا رحلة إلى القاهرة تستمر أربعة أشهر، وسترقى لاحقا إلى زيارة أسرية تشرفت بها وأسرتي لبيت وأسرة هذا الجميل الوديع في صلالة، ما زالت في الذاكرة. نعم أصفه بالوديع لأن ما كان يقدمه في البرنامج من غلظة التعابير والأوصاف لا تشبهه أبدا، ولكنه كان يقوم بواجبه، ويرد على برنامج معاكس يتبع النهج نفسه من إذاعة عدن. وينتهي لاحقا هذا التراشق بإقامة علاقات أخوية ودية تنسى الماضي وأوجاعه، وتصل لأجمل نماذج علاقات الجوار... إذًا فقد تحقق النصر وسنخرج للتعبير عن هذا الفرح.. بدأ التجهيز في البيت من الليلة الفائتة، حيث أحضر لي والدي حذاء رياضيا جديدا، كما أحضر لي من دكانه مطارة ماء بلاستيكية حمراء كبيرة نسبيا، بها صورة مجسمة على واجهتيها، جانب فيه صورة الكعبة المشرفة والآخر المسجد النبوي، وفي فمها غطاء هو عبارة عن كوب صغير، فهي ليست حافظة للبرودة ولا الحرارة، لذلك وضعت في (الفريزر) طوال الليل لآخذها معي في المسيرة وقد أصبحت قالب ثلج، كلما ذاب قليلا حظيت بجرعة تنعش ولا تطفئ الظمأ، ولكن الجيد أننا في فصل الشتاء.. بعد تجميعنا في المدرسة كان من نصيبي صورة موحدة للسلطان قابوس رحمه الله بلباس عسكري محمولة على عصى خشبية بطول متر أو أقل. حظيت من المسيرة بتلك الصورة التي ظلت لسنين معلقة في بيتنا، وحصل آخرون على أعلام.

وتولى آخرون من الكبار الإمساك بأطراف ووسط اللوحات القماشية التي تحمل عبارات النصر والتأييد، وهؤلاء مواقعهم في مقدمات مجموعاتهم، كتلك اللوحات القماشية التي توضع على البنايات وأقواس النصر. بينما حمل بعض المعلمين مكبرات الصوت لتوجيه المجاميع.. منطقة مطار بيت الفلج الذي لم يعد موجودا، حيث البنك المركزي العماني حاليا، تقريبا كانت هي نقطة التجمع والانطلاق إلى استاد الشرطة، الذي سيشرفه السلطان قابوس.. مسافة طويلة بالنسبة لأعمارنا، ولكنها تهون في تلك الأجواء.. انطلقت المسيرة التي قُدرت بمائة ألف مشارك، وإن كنت أشك في دقة هذا الرقم في ذلك الزمن، ولكن المشهد فعلا لا يرى أوله ولا آخره. هتافات وأناشيد وأشعار، وكل مجموعة تردد ما تم تحفيظها إياه من المعلمين.

كان السير سريعا، ولم يعد أحد يستطيع التحكم في السرعة أو البطء.. بين دوار وادي عدي ودوار الوطية بدأتُ أتأزم ولا مجال للسؤال عن دورة مياه حتى فقدت متعة المشاركة، فعيني على خارج الشارع علني أجد صخرة أختبئ وراءها وأفرغ بعض الماء من جسمي. لم يكن هذا الشارع قد ازدحم بوكالات السيارات بعد. لمحت صخرة بالمواصفات التي أبحث عنها قبل أن نصل بموازاتها بمسافة جيدة، فخططت بأن أخرج من المجموعة وأركض نحوها بحيث عندما أكمل تكون مجموعتي قد وصلت فأعود إليها. انفصلت وركضت وأنا أشعر بأن الصورة والمطارة وشيئا آخر كنت أحمله -ربما بعض الزاد- تشكل لي حملا ثقيلا. اختفيت وراء الصخرة وتخففت سريعا وعدت أنظر للمسيرة الطويلة فعلا، ولم أتمكن من رؤية مجموعتي، فهل يعقل أنهم لم يصلوا بعد! انتابني بعض الخوف والقلق، وقبل أن أقرر الدخول في أي مجموعة من أي مدرسة رأيت إشارة أعرفها لمدرستنا وقد تقدمت أضعاف ما توقعت، فأخذت أجري محاذيا المجاميع حتى لحقت بهم واستعدت مكاني.. متوقعا أن معظم الأشخاص قد مروا بمواقف ومفارقات صعبة أو حتى مضحكة في ذلك اليوم، ولكن حالة الفرح والابتهاج، وشعورنا بأننا جزء من حدث عظيم كانت أكبر بكثير.. عند الوصول تدخل المجاميع الميدان من البوابة الجانبية الكبيرة، فتدور بجانب المدرجات حتى تجد لها مكانا للجلوس، بانتظار خطاب النصر، المنتظر من جلالة السلطان، بينما ظلت الساحة مليئة بالمجاميع المبتهجة مؤدية الرقصات والأغاني الشعبية وما تم تأليفه خاصة لهذه المناسبة. فبعد أن طفنا نصف الملعب تقريبا صعدنا إلى المدرجات الغربية لنأخذ أماكننا. شعرت أنني لم أعد أقوى على حمل الأشياء التي بحوزتي.. مررت أمام امرأة تجلس على المدرجات وفي حضنها رضيع وباد عليها أنها تعبة ووحيدة، قالت لي (ولدي تجمّل عطيني جرعة ماي حال ذا الجاهل) شعرت بتعاطف شديد، كما شعرت بإنقاذ من بعض أحمالي، فأنزلت المطارة فورا من رقبتي وسلمتها لها كاملة ومضيت دون أن ألتفت. وعند العودة إلى البيت سألني والدي عن المطارة وشرحت له الموقف ببعض التصرف الذي أبدو فيه شهما وكريما ولست ساذجا.

من المقصورة السلطانية في الاستاد ألقى السلطان قابوس خطابه التاريخي وسط ضجيج الجماهير الذين يصفقون خلف كل عبارة يقولها! يبدو أنه حتى التصفيق كان اكتشافا حديثا بالنسبة لنا، فقبل النهضة لا شيء تقريبا نصفق له.. هنأ جلالته في خطابه الشعب بعيد الأضحى المبارك، معلنا انتهاء الحرب. ولتبدأ في العام التالي أول خطة خمسية تنموية، والتي ظلت منهج العمل الوطني طوال سنوات النهضة، وصولا إلى النهضة المتجددة التي بدأت معها الخطة العاشرة (2021 ــ 2025م) كأول خطة تنفيذية لرؤية عمان 2040.. فأصبح هذا اليوم 11/ديسمبر من كل عام هو يوم أو عيد النصر، وتغير اسمه لاحقا ليكون (يوم القوات المسلحة) في إشارة واضحة لواحدة من ملامح السياسة العمانية التسامحية بعدم استخدام العبارات المثيرة أو المستفزة لأي طرف، حتى وإن كنا في موقف المنتصر.

- كل عام وقوات السلطان المسلحة درعا منيعا لوطن عظيم، في ظل القائد الأعلى، جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه.