«خوف» وسقوط أعمدة «المعبد»

13 نوفمبر 2024
13 نوفمبر 2024

فـي حياتنا الثقافـية، لم نعتد على حدوث زحام شديد فـي فعالية أدبيّة يستوجب الاستعانة بقوات الأمن لتنظيم الحركة، فالخطاب الثقافـي، فـي مناطقنا، تتداوله النُخب، إلّا فـي حالات نادرة جدا، من بينها ما جرى فـي معرض مسقط الدولي للكتاب، وتحديدا يوم الرابع من مارس عام ٢٠٢٢ عندما أعلن اليوتيوبر الكويتي (كويلي) عن توقيع كتابه الموسوم (قصص من وحي الواقع)، فاحتشد الشباب ممن هم من دون سنّ العشرين، وأحدثوا زحمة غير مسبوقة، وفوضى شلّت حركة السير فـي الطرق المؤدّية لمركز المعارض والمؤتمرات، فشكّلت ضغطًا على المعرض، وزوّاره، مما استدعى الأمر تدخل الجهات المسؤولة عن حفظ النظام. والظاهرة مفهومة وواضحة، فوسائل التواصل الاجتماعي اعتادت أن تعلي مقام من تشاء وترفع صيت من تشاء، وقد شاهدت بعيني التدافع الذي جرى فـي الأصبوحة التي أحياها الشاعر القطري ناصر الوبير، الذي يكتب الشعر النبطي، فـي جامعة بغداد يوم ١٤فبراير ٢٠٢٤م وقد أقيمت ضمن فعاليات ملتقى جامعة بغداد الثقافـي عندما احتشد حوالي خمسة آلاف طالب وطالبة فـي قاعة الحكيم لسماع الشاعر الذي طالما تابعوا مقاطع الفـيديو التي ينشرها عبر حساباته فـي مواقع التواصل الاجتماعي.

اليوم عادت هذه الظاهرة، فـي معرض الجزائر الدولي للكتاب، عندما تدافع أكثر من (7) آلاف شاب للحصول على نسخة من رواية (خوف) للكاتب السعودي (أسامة المسلم) فشكّل الحدث ظاهرة تستحق وقفة، والأمر ليس بجديد على الكاتب فقد حدث ماهو أكبر حفل التوقيع الذي أقيم على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب العام الماضي، فكما يقول الكاتب فـي حديث (للعربية نت ) «حضر حفل التوقيع أكثر من 20 ألف قارئ حسب الإحصاءات الرسمية من جميع محافظات مصر، وخصوصا من فئة الشباب، مما تسبب فـي زحام شديد اضطر المنظمين بعد عدة ساعات إلى إيقاف حفل التوقيع خوفًا على سلامة الحضور» تساءل الروائي واسيني الأعرج فـي منشور بصفحته دعمه بفـيديو لمشهد من التدافع على جناح دار النشر التي طبعت الرواية «كيف نقرأ هذه الظواهر القرائية؟ هل هي مجرد موجة طارئة؟ أم هي صورة للنموذج القرائي القادم»؟

ولعدم معرفتي الكافـية بهذا الكاتب، عدت إلى محرّك البحث لمساعدتي وإمدادي بمعلومات عنه تعينني على تفسير الظاهرة، فعلمت أنّه من مواليد 1977 والغريب أنّ له (32) رواية، أشهرها: (خوف) بثلاثة أجزاء، يجري العمل على تحويلها لمسلسل تلفزيوني سعودي، ومن خلال إلقاء نظرة على سجل أعماله نلاحظ أنه لا يكتفـي بجزء واحد من الروايات التي يكتبها، بل تتعدّى إلى عدّة أجزاء، وعلى هيئة سلسلة من بينها سلسلة (بساتين عربستان) بستة أجزاء، وهي أيضا تحوّلت لمسلسل تلفزيوني، و( ملحمة البحور السبعة) بخمسة أجزاء، و(صخب الخسيف) بثلاثة أجزاء، أما رواية (وهج البنفسج)، فقد جاءت بجزأين، وهذا يعني أنه فـي كل عام يكتب أكثر من رواية وقد نشر ما يقارب عشر روايات فـي ثلاثة أعوام فقط !

هذه الغزارة فـي الكتابة يقابلها انزواء عن المشاركات فـي الحياة الثقافـية العربية، البعض دافع عن الكاتب ووصف من قلّل من أهمّيّة كتاباته بأنه من «كهنة المعبد»، وألقى عليه اللوم، مقارنًا بما يجري فـي الغرب، حيث تقابل مثل هذه الظواهر بالترحيب، كما جرى مع الكاتبة البريطانية جوان كاثلين رولينج صاحبة رواية (هاري بوتر) التي بيعت منها ملايين النسخ فـي سائر أنحاء العالم، وحوّلت إلى أفلام ومسلسلات يشاهدها الملايين، فقد قوبلت بالدعم ولم يحاربها أحد.

وما دام هذا الكاتب يمتلك شعبية لمَِ لا نحلّل ظاهرته كونه رفع منسوب القراءة فـي عالمنا؟ ونجيب عن أسئلة من طراز: ما الذي صنع شعبيّته بين القرّاء؟ هل طبيعة الموضوعات التي يتناولها وهي فـي الغالب مغامرات خيالية، بعضها عن السحر والجنّ؟ أم أن قرّاء اليوم ليسوا قرّاء الأمس، فهم يميلون للخيال أكثر من الواقع، وهل لوسائل التواصل الاجتماعي دور فـي التسويق لرواياته؟

البعض رأى أن الأسلوب البسيط الذي كتب به أسامة روايته (خوف)، ورواياته الأخرى هي التي جعلته يستقطب جمهور الشباب الذي ملّ الأساليب المعقّدة التي ينتهجها الكتّاب المعروفون، ورافق ذاك تسويق جيّد لكتبه، وبذلك يدعو د.بشير ضيف الله لقراءة الظاهرة التي صارت تستقطب ملايين القراء من مواليد الألفـية الثالثة، ويقول «نحن أمام جيل «رقمي» يمارس قراءته من خلال محموله «الوسائطي» بكل تمثّلاته وتداعياته، جيل تجاوز الطرق «الكلاسيكية» للقراءة/التلقّي، و«المسكوكات» المتعارف عليها فـي «تسويق» هذا الكتاب أو ذاك....يحتاج الأمر إلى روية وتمعن لا إلى «تشويه» و«نبذ».

وفـي السياق ذاته نستدعي ظاهرة الروائية الجزائرية «سارة ريفانس» الكاتبة الشابة ذات الـ 24 سنة التي تُرجمت روايتها (الرهينة) إلى تسع لغات وحقّقت أرقاما قياسية فـي المكتبات، وقرأها على النت أكثر من تسعة ملايين قارئ، رغم أن بعض من قرأها أصيب بخيبة أمل، فقد وصفها أحدهم بأنها لا تتعدّى أن تكون أكثر من « كلام مراهقة»!

شئنا أم أبينا، نحن اليوم إزاء حساسية جديدة، تُملي على الكتّاب الذين يطمحون بجمهور واسع، إعادة حساباتهم، واختيار موضوعاتهم بدقّة، وكذلك دور النشر التي تتولّى طباعة رواياتهم، من حيث العروض التي يقدّمونها لتسويق الكتب وتوزيعها.

ومن هنا فظاهرة أسامة المسلم صحيّة، كونها تجبر الكتّاب على إعادة النظر فـي العلاقة مع القراءة، وتدعوهم لمراجعة أدواتهم فـي الكتابة، قبل أن تستفحل هذه الظاهرة، وتتهدّم على رؤوس كهنة الكتابة أعمدة المعبد.