خُلِق عجولا
الرغبة البشرية الجامحة في تحقيق كل شيء وبسرعة كبيرة باتت السمة الغالبة على التعاملات البشرية في كل مناحي الحياة، ابتداءً من العلاقات الإنسانية والأعمال وانتهاءً بساعات الراحة والاسترخاء التي يحتاجها الإنسان. كل شيء بات مرهونًا بوضع جدول زمني محدد له لا يمكن تجاوزه، فالإنسان كما وصفه خالقه «وكان الإنسان عجولًا» مستعجلًا لكل شيء في الحياة.
هذه الرغبة الجامحة وإن بدت في ظاهرها حميدة وتحمل في باطنها الكثير من الإيجابيات، إلا أن الإسراف في تطبيقها جعل كثيرًا من البشر في عجلة من كل شيء، يبحثون عن الراحة والسرعة في أركان الحياة المختلفة. لماذا ننتظر إن كان بالإمكان تسريع الأحداث عما هي عليه؟ لماذا ننتظر إن كان بالإمكان عدم الوقوف في طابور البقالة واستباق الأحداث بضغطة زر من جهاز الهاتف يجلب كل شيء إلى البيت؟ لماذا ننتظر إعداد وجبة صحية إن كانت احتياجاتها تتطلب الذهاب لشراء كل شيء واستباق ذلك بطلب الوجبة جاهزة من المطعم المجاور؟ لماذا ننتظر أكل فاكهة ما إن كان ذلك يتطلب بذل جهد في زراعتها وسقيها وإنضاجها وجنيها إن كان بالإمكان الحصول عليها جاهزة من دكان البقالة القريب؟ لماذا ننتظر الحصول على وظيفة إن كانت متطلباتها تعني دراسة وتعليمًا وذهابًا إلى المدرسة والجامعة ومذاكرة وجدًا واجتهادًا واستباق ذلك بتسلق وظيفة غير شرعية تدر الكثير من الأموال على ممتهنيها؟
لماذا ننتظر إذا كان بالإمكان أن تصل الأشياء إلينا بسرعة كبيرة؟ أتساءل أحيانًا، هل فقدنا متعة الانتظار باستعجالنا لكل شيء؟ وهل غابت تلك اللحظات الصغيرة الجميلة التي ننتظر بها وصول الأشياء باستعجالنا في الحصول على كل شيء بسرعة كبيرة؟
ربما نحن مدفوعون برغبة لا تنتهي في الإنجاز. نريد كل شيء هنا والآن، دون أن نفكر في ما يمكن أن نخسره من خلال هذه السرعة. نحن نريد الطعام أن يصل بسرعة، نريد أن نحقق النجاح بسرعة، نريد أن نتعلم ونحصل على النتائج دون عناء. حتى في العلاقات، بات الصبر وكأنه عنصر فاقد لقيمته.
لا يقتصر استعجالنا لكل شيء على حياتنا اليومية البسيطة التي أفرزتها الحياة الحديثة والأجهزة المرتبطة بها، بل تسلل ذلك إلى جميع جوانب حياتنا. في العمل مثلًا، نريد أن نترقى بسرعة ونريد أن نصبح مدراء ومسؤولين بمجرد التحاقنا بالوظيفة. نريد أن ننقص من أوزاننا باستسهال إجراء عمليات معقدة أو شرب أدوية من دون الحاجة إلى قضاء أيام في ممارسة جهد بدني قد ينتج عنه الكثير من التعب والإرهاق. هذا الهوس بالسرعة يجعلنا في حالة مستمرة من التوتر، حيث نتصور أن التقدم البطيء هو فشل أو تأخير غير مبرر.
الحقيقة هي أن الأمور الجميلة والمستمرة في الحياة غالبًا ما تأتي مع البطء وليس السرعة، هي مثل الأشجار تمامًا تنمو ببطء وتحتاج إلى سنوات طويلة من العناء والعناية كي تطرح ثمرها الحقيقي. كذلك هي فلسفة الحياة، كل جميل فيها يحتاج إلى وقت وجهد كي ينمو ويزدهر. فالاستعجال في قطاف ملذات الحياة لا يعني سهولة التمتع بها، فالاستعجال في كثير من الأحيان يكون سببًا في إفساد الكثير من متع الحياة. فالتفاصيل اليومية الصغيرة تحمل في طياتها كثيرًا من المتعة والجمال.
لا يُفهم من كلامي هنا أنني أذم السرعة، لا سيما وأن كل ما يحيط بنا مبني ومفصل على السرعة، لكنني لا أحمدها في كل شيء فهي جزء من التطور التقني الذي نعيشه اليوم. لكن المشكلة تكمن في أننا نريد السرعة في كل شيء، حتى في الأمور التي تتطلب منا التريث. في عصر التقنيات الحديثة، حتى الترفيه أصبح سريعًا. الأفلام القصيرة والمحتوى السريع على وسائل التواصل الاجتماعي تملأ أوقات فراغنا، لكن هل نترك لأنفسنا وقتًا للتفكير والتأمل؟ هل نأخذ استراحة للتواصل الحقيقي مع العالم من حولنا؟
التأمل في هذه الجدلية يفتح الباب للتساؤل: ماذا لو عدنا للوراء بوتيرة أبطأ؟ ماذا لو أخذنا وقتنا لنتذوق الحياة بتفاصيلها الصغيرة؟ قد نكتشف أن السعادة الحقيقية ليست في تحقيق كل شيء بسرعة، بل في الاستمتاع بالرحلة نفسها.
قد تكون السرعة مغرية، لكنها ليست دائمًا هي الحل الأفضل. في بعض الأحيان، تحتاج الحياة إلى إيقاع أبطأ كي نستمتع بها حقًا. نحتاج إلى وقت للتفكير، للتعلم، للتواصل مع الآخرين، وللإحساس بمعنى ما نفعله. لأن ما نريده بسرعة اليوم قد يكون ما نفتقده في الغد.
عبدالله الشعيلي رئيس تحرير جريدة «عُمان أوبزيرفر» |