حياة كاملة في عزلة دائمة

13 مارس 2023
13 مارس 2023

لا يَفهم الإصغاء للطبيعة إلا مَن عاش بين أكنافها، أو تدرَّب طويلا حتى تمكن من اكتشاف أسرار السكينة والتقرب من ملكوت العزلة المقدسة، فالصمت في حضرة السكينة عبادة، حين تنتاب المرء لحظات من الشعور بقيمة استعادة الفطرة الإنسانية بكل تجلياتها. لذا كانت العزلة سبيلا لاستقبال رسائل السماء ونزول النواميس. حاول العديد من الروائيين استلهام فكرة العزلة وتجسيدها في نصوص معبّرة عن فكرة الخلوة بالنفس بعيدا عن صراع الحياة المتسارع، فمنهم من أخفق في التعبير، ومنهم من نجح، مثل الروائي النمساوي روبرت زيتالر (1966) في روايته الفريدة (حياة كاملة) التي ترجمتها ليندا حسن عن الألمانية، وصدرت عام 2017 عن دار التنوير، وترشحت الرواية للقائمة القصيرة لجائزة البوكر الدولية عام 2016. استطاع الكاتب المولود في فيينا تجسيد حياة الفرد المُنعزل عن حياة المجتمع، وإعادة الاعتبار إلى الفردانية، وكشف زيتالر عن أعماق الإنسان المتعلق ببيئته القاسية والمؤلمة أيضا. فمن خلال بطل الرواية أندرياس إيجر يبدأ السرد من لحظة رفع أندرياس لراعي الغنم المحتضر يوهانس كاليشكر المعروف لدى السكان المحليين بهانس ذي القرون، الذي يتحاور مع أندرياس عن الموت وهما يسلكان طرقا جبلية محاصرة بالثلوج والضباب. ويسأله: «أين تريد أن ترقد أندرياس؟» فيرد الأخير بأنه «لا يعلم»، فيجاوب ذي القرون: «الأرض هي الأرض، ولا فرق أين يرقد المرء». ويضيف في الحوار عن الموت، الذي ابتدعه الكاتب على لسان يوهانس الموشك على الرحيل: «يقول الناس إن الموت يلد حياة جديدة، لكن الناس أغبى من أغبى ماعز». بعد الحوار يهرب يوهانس ويعجز أندرياس عن العثور عليه، ويختفي أيضا من الرواية حتى الصفحة (125) حين عثر المتزلجون على جثة هانس ذي القرون داخل صدع في نهر فيرنايز الجليدي. ليبدأ أندرياس بعد ذلك في توديع ذاته في الصفحات الأخيرة من الرواية، إذ وجد البطل نفسه غريبا في قرية بدأت تتضخم، بعد أن كانت قرية جبلية تعيش على وقع تكوّن الثلوج وذوبانها «ذاب الثلج في الوديان، وبات يُسمع دوما في القرية صوت التنقيط وخرير الماء بعد ذوبانه».

حسب السنوات التي عاشها البطل أندرياس إيجر في الرواية فقد عانى الوحدة وعاش آلام القسوة منذ فقدان أمه وولادته كابن غير شرعي وتجرّعه لتوجع الضرب المبرح الذي ينزله به خاله في معظم الأحيان، انتهت بكسر عظم الفخذ فعاش أندرياس حياته أعرج، وحين شبّ خرج من بيت خاله واعتمد على نفسه في كسب قوت يومه، أحب امرأة واحدة وفقدها، تنقل بين مهن مختلفة منها في شركة بناء عربات التلفريك، وآخرها مرشد سياحي للمتزلجين. عاش وفيا لعزلته الداخلية، وتأقلم مع وحدته التي آنسته في حياته، فلم يشعر بالحاجة إلى الآخرين طالما وجد عملا يعتاش منه.

سيجد عشاق العزلة العزاء في (حياة كاملة)، فهي تمنح شرعية للوحدة، والانسجام مع انزواء الفرد المتوغل في أعماق الفكر والأسئلة الوجودية. الرواية سلوان للأرواح التي تُفرد أجنحة التحليق بعيدا عن الركب والاتباع، أو تخلق مسالك للأقدام التي عافت السير على خطى المشائين. لهذا كانت الجبال مقصدا للباحثين عن العزلة والخلوة مع الذات، لذلك لجأ إليها الرهبان والنُسّاك والمتصوفة، إذا تمنح المرتفعات الشعور بالسمو عن حطام الدنيا ومغرياتها المادية، بينما ترفرف الأرواح على القمم السامقة.

تتوقف قيمة العمل الأدبي على انعكاسه على المرآة الداخلية للفرد، فالعمل إما مهيج للمشاعر التي مر بها القارئ، أو مغرٍ للتعمّق فكريًا أكثر في عوالم النفس المتشعبة، وأظن أن رواية حياة كاملة تُقرأ في مختلف الأمكنة والأزمنة؛ نظرا لتوغلها في ذات الإنسان النازع إلى البحث عن عزلته المختارة.