حياة الميلودراما

13 أغسطس 2024
13 أغسطس 2024

(1)

الميلودراما Melodrama أو «المَشجاة» نوع من الأنواع المسرحية وهي لفظة منحوتة من كلمتين الأولى Melo وتعنى «لحن» والكلمة الثانية Drame. بفضل التطور الحاصل في المصطلحات الفنية تطورت الميلودراما من مجرد لحنٍ موسيقيٍ، لتصير نوعًا له خصائصه وأعرافه وأسلوبه الفنيّ الخاص ووظائفه. ففي التراجيديا القديمة كان يصاحب تقديم العرض المسرحي فواصل مكونة من الموسيقى والغناء تؤديها الجوقة على شكل مقاطع موسيقية لإبراز المواقف الحادة أو المؤثرة في العرض. عَرفت كل من إيطاليا وألمانيا وفرنسا إدخال الميلودراما في مسرحياتها كمحاكاة للتراجيديا في أوجها، في حفلات الأوبرا بأنواعها: «المُضحكة والتهريجيَّة والبالاد وفن الأوبريت». ونظرًا لوجود فروق ضئيلة جدا بين هذه الأنواع من الأوبرا، فسألزم نفسي بالتعريفات التالية لها: «الأوبرا المضحكة (Comic Opera) هي نوع هجين يجمع بين أدوات تعبير الأوبرا والكوميديا، فهي تحتمل طابع الهزل وطابع المأساة، موضوعاتها تتنوع بين الطابعين السابقين (أوبرا كارمن للفرنسي جورج بيزيه نموذجا). ما يميزها أيضا أنها ظلت حتى عام 1715م تنتمي إلى الشعب وعامة الناس، فيجري فيها تقديم بعض فقرات المبارزات وحركات البهلوانيين وخفة الألعاب والحيل، ثم في عام 1743م قفزت فصارت عملا موسيقيا بحتا، وفارقت طابع الكوميديا الذي لازمها وبقي فيها الرقص والباليه)، والأوبرا التَّهْرِيجيَّة (Opera Buffa) هي «أوبرا مغناة بأكملها، لكنّ طابعها ضاحِك وتحتوي على عدد قليل من الممثلين، وتكمن أصولها في الفواصل». أما الأوبرا بالاد Ballad Opera فهي: «شكل مسرحي غنائي شعبي قريب من الأوبريت والكوميديا الموسيقية والمضحكة، ظهر هذا النوع في إنجلترا في القرن الثامن عشر». وتقدم أوبرا بالاد مقتصرة على أغاني مستقاة من ألحان معروفة، ويؤدي فيها ممثلون قادرون على الغناء، والأوبريت هي «شكل متطور عن الأوبرا المضحكة والفارس أو المهزلة والفودفيل. وتدل في الاستعمال المعاصر لها على نوع غنائي شعبي لا يخضع للقواعد الصارمة التي يمتاز بها فن الأوبرا العريق، ويحتوي الأوبريت على حوار كلامي يطرح موقفا دراميا فيه فكاهة، وتتخلله مقاطع غنائية خفيفة ذات ألحان بسيطة يسهل ترديدها من قبل الجمهور».

لعل السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ما علاقة الميلودراما وحياتها بفنون الأوبرا وأنواعها؟ وسؤالي المهم كيف صارت الموازاة عربيا بين فن يستند في جوهره إلى الشعب وفن الأوبرا النخبوي؟ وكيف جرى مقاربة البعد الجمالي للميلودراما مع الحاجيات الأساسية للمجتمعات؟

(2)

مبدئيا، إن القاسم المشترك بين الميلودراما وأنواع الأوبرا السابق ذكرها يكمن في احتوائها على فنون الغناء والموسيقى. استند -حسب معاجم المسرح التي عدتُ إليها- تاريخ الميلودراما إلى مبدأ الاستعارة. كانت تستعير الميلودراما قصصها وأساليب حيلها وألاعيبها من أنواع الأوبرا الموسيقية السابقة. سياسيا، وانطلاقا من مبدأ انتصار الثورة في المجتمعات أو انتكاساتها بشكل عام، فإن الميلودراما كذلك اقترن ظهورها بالنفوذ الإيديولوجي لدراما الطبقة البرجوازية في القرن التاسع عشر مع ظهور صيحات النداء الداعية إلى كتابة تراجيديات جديدة تتوجه إلى الشعب. لقد استطاعت الطبقة البرجوازية في فرنسا أن تعمل على خلق مسرح يخاطب الشعب بمواصفاتها الطبقية، وليس على ظهور مسرح نابع من الشعب نفسه. ومن أجل فك هذا الارتباط الذي يشي بوجود طبقة متنفذة متحكمة وأخرى طبقة تابعة يجرى النظر اليوم إلى صعوبة التمايز على اعتبار أن الميلودراما ليست حكرا على طبقة معينة.

قرأت دراسة مهمة حول وظيفة الميلودراما بعنوان: (الميلودراما في الحياة والفن: الترفيه والطمأنة والسياسة) للباحث (وليد الخشاب- مجلة فصول- العدد 97- 2016م) يتصل الجزء النظري فيها بمحاولة لإجابة سؤالي السابق، يكتب التالي: «... ومثل كل الظواهر الثرية والمعقدة يصعب تحديد لحظة استيراد أو استيلاد الميلودراما في العالم العربي، لكن المؤكد أنها توطنت سريعا منذ استيرادها في القرن التاسع عشر، وأنها سريعا ما تولدت في البيئة المحلية «...» ربما جاز أن نعتبر للميلودراما لحظتي ميلاد في الوطن العربي: الأولى مع المسرحيات المترجمة ثم المعربة والمقتبسة في الشام ثم مصر مثلما الحال مع كثير من المسرحيات (أبو خليل القباني، سليم النقاش) «...» والثانية مع عرض أوبرا عايدة للموسيقار الإيطالي جيوزيبي فيردي في القاهرة في ديسمبر 1871م التي استلهمها النقاش ليقدم حوالي 1877م مسرحية عايدة الغنائية مصاحبة بموسيقى عربية».

واستنادا إلى ما تقدم، فإن الخشاب يرى أن كلا الحدثين علامة تصلح لتأريخ الميلودراما في الوطن العربي، فالأولى «أقرب لاستدعاء شعبي للمنتج الثقافي الأوروبي، والثانية تجسيد لاستيراد الدولة لهذه المنتجات كجزء من مشروع تحديثي فوقي...» وبهذه الطريقة جرت الموازاة بين الشعب والنخبة.

إن وظيفة الميلودراما في مجتمع الوطن العربي «ارتبطت تاريخيا باستيراد الحداثة فيه». لا شك في أن التحديث الحاصل في مجتمعات الخليج قد نقلها من زمن إلى آخر بسرعة شهد معها حدوث التناقض في مجتمعات كانت تقليدية في نمط حياتها وأسلوب معيشتها إلى مجتمعات تغمر -الشخصية الخليجية - تجاوزا لكثير من التصورات التي قد تصل إلى حدود المبالغة والإسراف الشديدين. أتذكر في هذا السياق ما وصفه الباحث إبراهيم عبدالله غلوم في كتابه (المسرح والتغير الاجتماعي في الخليج العربي دراسة في سوسيولوجيا التجربة المسرحية في الكويت والبحرين، سلسلة عالم المعرفة، رقم العدد 105، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1986م) قائلا التالي: «... وربما لم تحتف حركة مسرحية في الوطن العربي بالتغير الاجتماعي كما احتفت به المسرحية في مجتمع الخليج العربي، لأن المجتمعات العربية الأخرى لم تواجه ظواهر الانقسام، والتوتر، والصراع، والقلق وعدم التوازن، التي خلقها ظهور النفط، وانقلاب نمط الإنتاج في فترة وجيزة من الزمن. ولا نعني بظهور النفط مجرد المادة الخام، وإنما نعني به محركا أساسيا لتطور النظام الاجتماعي والسياسي في ذلك المجتمع». ويُلخص لنا الأديب القاصّ (عبدالحميد أحمد) ما أحدثته الزلزلة الاجتماعية والنفسية في رأي ينسحب على مجتمعات الخليج كافة، في النقاط التالية: أدى اكتشاف النفط إلى حدوث تصدع في «العلاقات الاجتماعية القديمة، ثم أخذت تلك العلاقات تنكمش وتضمحل وتتلاشى لتحل محلها علاقات جديدة سمتها الغالبة روح الاستهلاك الشره والمنافسة الفردية. كما قضت هذه القفزة المادية على أشكال الإنتاج القديمة البسيطة، وأحلت محلها الوظائف الإدارية والمساعدات الاجتماعية وفرص التعليم والتجارة الحرة. وأفرخت هذه العلاقات الاجتماعية الجديدة جوا فكريا جديدا سماته روح التنافس التجاري وأخلاق الوظيفة الإدارية وسلوكيات المتعلم الجامعي والنزعة الفردية الطموحة».

(3)

عطفا على ما تقدم في الرقم (1) فإن الميلودراما هي «صيغة المبالغة والإسراف أو الإفراط»، ومحورها يدور في دراما العائلة وما يعتمل فيها من البكائيات والمؤامرات والنهايات المتعسرة غير السعيدة (الأقرب إلى ولادة قيصرية) والمصائر الفاشلة. وأبسط قصة ميلودرامية خالية من العقد يمكن أن تنتظم في ملخص القصة التالية: عمرو أحب ناهد، فتزوجا وأنجبا البنات والبنين. الزوجان خان أحدهما الآخر، فانهارت قصة الحب، وتحولت إلى رغبة في الانتقام، وانتهى الحب بينهما إلى تعاسة وحسرة وبكاء وفجائع. أما شخصيات الميلودراما فهي نمطية إما أن تكون طيبة وضعيفة ومستسلمة، أو تكون شخصيات شريرة وخسيسة وجبانة. كلما اتسم العمل الفني بالمبالغة وإثارة مشاعر الحزن كلما ارتفعت نسبة مشاهدته. ومن الجيد جدا أن يظل الخير هو الحلقة الأضعف متعرضا لشتى أنواع الأفكار الهادمة والميؤوس من انتصار القيم التي يدعو إليها الخيرون. ولكي يتصاعد الصراع بين القوتين، فعلى سمة المبالغة بالانفعالات شرط تحقق الميلودراما فيها. وقياسا على ذلك، فالصراع ليس مقتصرا على العائلات الاجتماعية، لكنه يشمل المعسكرات السياسية، والأحزاب الانتخابية، والأحلاف القبلية. أما وظائفها كما يتصورها الخشاب ثلاث وظائف كالتالي: «وظيفة ترفيهية بحتة بموجبها تقدم الميلودراما تسلية للمتفرج/ المستهلك للثقافة. ووظيفة اجتماعية بمعنى تداخل الميلودراما مع الحوارات والمفاوضات والسجالات الدائرة في المجتمع، ووظيفة سياسية بمقتضاها تمثّل الميلودراما صيغة من صيغ الخطابات السياسية وأداة للسجال».

حول الصراع الحاصل ما بين الخير والشر أو قيم المجتمع التقليدية والقيم التي استولدتها الحداثة في المجتمع العماني، يمكن النظر إلى الأعمال الدرامية الأولى التي عرضها التلفزيون، وكذلك بعض مسرحيات مسرح الشباب وما كتبه المسرحي الراحل محمد الشنفري. فالملحوظة العامة أن أغلب الصراعات الدرامية تجري بين عالم القرية وعالم مدينة مسقط. وأعود سريعا إلى مسرحية «مليونير بالوهم» لمحمد الشنفري، وأستذكر منها ما يرتبط بالميلودراما في سياق المقالة، حيث شخصية (أم ليلى) الزوجة والأم/ المرأة العمانية النموذج الدال على الخير والتراث والموروث العماني الأصيل، بينما (أبو ليلى) زوجها وصديقه (صربوخ أبو خالد) على نقيضه، فأبو ليلى يشير إلى قطب الحداثة المتوهمة وهي حداثة تتزيا بمفردات المدنية والتحضر، وتمثّل جانب الشر. وهذه النمطية الجاهزة في بناء الشخصيات اتسم تقديمها في قالب هزلي ما أضفى على الأدوار طابع ميلودرامي يتكرر في بعض المسرحيات التي يعرضها عليَّ بعض الأصدقاء لتقييمها، أو نراه قد تمدد إلى بعض مسلسلات رمضان، وبنية الشخصيات الكوميدية فيها. وفي السياق نفسه، لا تنجو بعض دراما المسلسلات الخليجية من الوقوع في فخ الميلودراما النمطية إلى حد الابتذال إلا من استثناءات قليلة.

هناك الكثير من أطروحات الميلودراما في دراما المسلسلات والنصوص المسرحية المعاصرة، بعضها يتخفى في غنائيات وبكائيات وفجائع هزلية، وبعضها يشوبه شيء من الوعي على نقد المجتمع وبناء وعيه وتذكيره ألا وجود لخير أو شر مطلق.