حول النقد والفلسفة
عودة متأنية إلى الأوراق النقدية التي قدمت ضمن فعاليات مهرجان القرين الثقافي الثاني الذي عقد في الكويت خلال الفترة من ١٢ إلى ١٤ ديسمبر ١٩٩٥م وجاء كما وصفه الدكتور محمود أمين العالم بأنه «تعبيرا عن خصوبة الحياة الأدبية التي تعيشها منطقة الخليج»، يتبادر إلى الذهن والمتابع هذا التساؤل: أين توقف اشتغال الناقد في مجتمعات الخليج التي تشهد اليوم حراكا ثقافيا يتبدى في النتاج الأدبي على عدة مستويات؛ كالإصدارات الأدبية في حقول السرد والشعر، وفي إقامة العديد من المهرجانات المسرحية والشعرية، وعقد الملتقيات الفنية المختلفة كالفنون التشكيلية والموسيقية والتراثية وفي مسابقات الأفلام ذات الصبغة الروائية والقصيرة والمستقلة، وفي المسابقات والجوائز الأدبية وفي إصدار المجلات الثقافية النوعية، وغيرها من الأنشطة التي تتولاها جهات حكومية وقطاعات خاصة كثيرة.
ينبع هذا التساؤل أيضا، على أثر «الهلاس» الكبير الذي أخذت تتولاه مؤخرا في السنتين الماضيتين وسائط السوشيال ميديا والوجود الثقافي الافتراضي، والتحول القادم الذي سوف تشهده وسائط كالفيسبوك مثلًا من تراجع أو ذبول كما يتنبأ بذلك المشتغلون بالميتافيرس، ما دعا هذا كله على نحو من الأنحاء، أن تقوم وسائل التواصل الافتراضي بمهمة أخذ زمام الأمور والتصدي لعقد لقاءات وندوات فكرية يشارك فيها العديد من الباحثين والنقاد والمبدعين بغية الخروج بنا إلى وجود افتراضي أفضل.
لا شك، أن وباء «كوفيد-١٩» الثابت والمتحور الذي عطّل العديد من الفعاليات والنشاطات والوظائف والأعمال؛ كمهرجانات المسرح والسينما ومعارض الكتب الدولية والعاملين فيها، وهذه جميعها كانت متنفسًا حيويًا وواقعًا للقاء الأدباء والنقاد والمفكرين، كما كانت ساحة لتبادل النقاشات حول النظريات الأدبية والاتجاهات الفكرية والتيارات المتعددة والإصدارات الأدبية المتنوعة.
لكن، على الرغم من ذلك الكم الهائل من الفعاليات الافتراضية، فإن سؤال اشتغال الناقد ظل يراوح في مكانه، لدرجة أن الاستثناءات الجيدة كانت جلها تتم في أروقة الكليات والجامعات! كما أن تعبير -الحياة الثقافية- لم يعد له استخدام بسبب أن ركائز الحياة الحيوية المتمثلة في النظرة المشرقة إلى القادم هي ذاتها قد تراجعت.
يعود تعبير «الهلاس» كما قرأته أول مرة لدى الناقد البحريني إبراهيم عبدالله غلوم، الذي استعمله في التعبير عن جريان مجتمعات الخليج جريانا كبيرا إلى استهلاك المادة على حساب الروح والجوهر في الدراما وفي الحياة بوجه عام.
والظاهر، أن ما سعت إليه وسائط الوجود الافتراضي من عقد تلك اللقاءات الثقافية هو نوع من ذلك «الهلاس»، الذي كاد أن يصيبنا بالتخمة الكاذبة، لدرجة وصل معه الحال إلى شيوع ما أطلق عليه الناقد العراقي عواد علي بالوصفات الفيسبوكية الطازجة وتتجلى عبر إطلاق صفة «الباذخ» على كل من: «الفنان، والأديب، واللاعب، والإعلامي، واللقاء»، وهي ملاحظات تشير إلى فجاجة الواقع الافتراضي وما يُنشر فيه من أمراض وعلل لدى أصحابها، أو يجري تحويل ذلك الفضاء إلى ساحة لتصفية الحسابات، فما الذي يعوّل عليه من هذه الوسائط، بعدما تحولت إلى ساحات للاحتراب؟.
بالعودة إلى أوراق فعاليات مهرجان القرين الثقافي، نجد أن محمود أمين العالم قد ربط ما بين انعقاد ملتقى للنقد الأدبي من جهة وارتباطه بالاشتغال الفلسفي من جهة أخرى، يقول: «عندما ينعقد ملتقى للنقد الأدبي، لا يكون انتسابه إلى الأدب أساسا، بقدر ما يكون انتسابه أقرب إلى الفكر الفلسفي، أيديولوجيا كان أو ابستمولوجيا، فإذا كان النقد الأدبي هو قراءة للأدب سواء كانت هذه القراءة منهجية أو انطباعية، فإن ملتقى للنقد الأدبي، يكون همه الشاغل بالضرورة هو الكشف عن أسس هذه القراءة ومرتكزاتها المعرفية والمنهجية، أو بتعبير آخر يكون أقرب إلى الفكر النظري النقدي -بالمعنى الكانطي لمفهوم النقد- أو إلى ما يسمى بنقد النقد منه إلى الفكر الإجرائي».
إنّ أول درس يتعلمه الدارس للأدب، هو الفلسفة، وأساليب النظر والقراءات المختلفة التي يمكن للقارئ أن يتحصّل عليها لتشكيل نظرته الخاصة إلى العالم والنص والوجود، كما تعرّف الفلسفة الدارس على الخطوط العريضة للتأويل، وتُكتسبه التعرف على علم المنطق وخطوات الحِجَاج، وبقدر ما تتصل هذه المسائل بقدرة التخصص في مجال النقد، فإنها تتصل كذلك بمسالة جوهرية أخرى هي التأليف الإبداعي ومضانه.
من الملاحظ أن أغلبنا كباحثين في النقد نتلمس المدارس والاتجاهات وهضم النظريات النقدية، فالباحث عندما يشرع في التحضير للدراسات العليا، يُنصح في البداية بتحديد المنهج النقدي الذي سيتخذه لتحليل الظاهرة، ولا شك أن اختيار المنهج يأتي تاليًا للسؤال الفلسفي أو الفكري، فلا يستقيم أن يتناول باحث ما، مثلًا ظاهرة الوجود الأجنبي في المسرح الخليجي دون أن ينبع ذلك من أسئلة متشابكة عن معنى الاتصال الحضاري والتفاعل بين الشعوب ومفهوم الأقليات والاندماج والهويات وحرية الثقافة والاعتقاد والتعايش والتسامح والتعددية...إلخ. هذه كلها أساسيات تدفع إلى اختيار المنهج الأكثر مناسبة وقدرة على الانفتاح على تقديم إجابات للأسئلة والإشكاليات المحاورة لها.
فإذا انطلق الباحث من هذا الوضوح فعليه صياغة الأسئلة وقلب ورفع سافلها إلى عاليها، بالضبط كما يفعل المؤلف عند اختياره للشخصية السردية أو المسرحية، أو كما يقوم المخرج بتبديل أدوار الممثلين على شخصية واحدة، تارة يجعل الشخصية إذا كانت أنثى أن تصير ذكرا، أو إذا كان ذكرًا أن يصير أنثى، وهذا هو التجريب المنفتح على التجريب ذاته، لا الوقوف عند إرشادات المؤلف والتسليم بها.
وكان بعض الباحثين عندما يشرعون في وضع خطة البحث للدراسات العليا، يقفون عند المنهج وتاريخه واستعراض المتصل منه بعنوان البحث، وكان هناك من الأساتذة من يُرغم الطالب على ضرورة إيلاء المنهج بابا كاملا في البحث، وبعضهم الآخر كان يحفز الطالب على اقتحام المغامرة وخوضها دون الركون إلى التقاليد المتبعة في تدبيج البحث بباب كامل حول المنهج وتاريخه، وهو جدل مستمر لم يُحسم إلى يومنا هذا!.
وقد يغلب على بعض الباحثين إنجاز أطروحاتهم باتخاذ المناهج التاريخية حسب تصنيف الدكتور صلاح فضل وتشمل: التاريخي، والاجتماعي والنفسي الأنثربولوجي، وتكاد أن تكون هذه المناهج الأكثر تناولا لدى الطلبة في مرحلة الدراسة الجامعية الأولى، يليها المناهج الحداثية وتشمل: البنيوي، والأسلوبي، والسيميولوجي، والتفكيكي، ونظريات التلقي والقراءة والتأويل، وعلم النص، بإضافة الدراسات الثقافية، والنقد الثقافي.
في ظلّ ما يُنجز اليوم من دراسات جامعية، واحتفاءات بالشخصيات الأدبية الخليجية المؤثرة ذات التاريخ الطويل، بات وجود مركز يهتم بالنقد الحديث في مجتمعات الخليج مسألة ملحة، ودون التقليل من بعض المراكز أو المؤسسات أو الهيئات المعنية بهذا الشأن، فإن إحدى صور التطور المجتمعي إنما يتبين من اشتغالات النقاد بالخطاب النقدي.
إن المتابع اليوم للمتغيرات الاقتصادية الضاغطة والتحولات الاجتماعية السريعة، ومحاولات الحكومات اللحاق بالعالم والتقنية، لن يجدي في صناعة التغيير الثقافي الشامل المنشود، فالهجوم الحّاد على الفلسفة والتذمر من النقد، يقللان من ذلك الطموح.
في نقاش حول تطور النقد في المجتمع العربي وربطه بالمتغيرات السياسية والاقتصادية في الستينيات وما تلاها، تنبه العديد من المفكرين وفي طليعتهم زكي نجيب محمود إلى هجرة الأدمغة العربية، والبحث عن ذاتها في مجتمعات أخرى، والشيء بالشيء يُذكر، ففي تزايد ظاهرة البحث عن العمل، والضرر الاقتصادي الكبير الذي شمل العالم كله بسبب جائحة «كوفيد-19»، والعودة الاحترازية إلى مزاولة الحياة الاجتماعية والثقافية على خوف وحذر شديدين، ما يجعلنا نرجع إلى سؤال المربع الأول: أين جهود الاشتغال الفلسفي والتفكير النقدي؟ وهذه الخصوبة التي لاحظها محمود أمين العالم، ماذا تنتظر اليوم، وعلى ماذا تعوّل؟.