حركة اللغة الشعرية في مجموعة «منطاد دائخ» لصالح العامري
«أنا
ذِئْبٌ خائفٌ
يهربُ
كلما سمعَ مزمارَ الرَّاعي»
يُعدُّ صالح العامري واحدا من الأصوات الشعرية العمانية المنفردة بنغمة شعرية خاصة، وأسلوب خاص، ولغة مبتكرة لها اشتغالاتها العميقة؛ وذلك دالٌ على ثقافة واسعة ينهل منها، وعمق اطلاع وسعة استشهاد وبلاغة تعبيرية خلابة وظّفها في تطويع النص الشعري.
في مجموعة (منطاد دائخ) الصادرة عن دار الفراشة للنشر والتوزيع بالكويت عام 2020م، يقودنا صالح العامري إلى عوالم متداخلة بين الواقعي والمتخيل، كما يَعبُرُ بنا مواضع شائكة تتشكّل منها اللغة والصورة.
تتشكّل المجموعة من (56) نصا شعريا، قسّمهم الشاعر إلى محورين اثنين: عنون المحور الأول بـ: «زهرتك الوحشية التي تفيض بالعسل وتزلزل المدينة»، فكتب في هذا المحور (6) نصوص شعرية فقط، أما المحور الآخر فسماه بـ: «منطاد دائخ» وجمع فيه (50) نصا.
تتفاوت نصوص المجموعة في الاشتغال القائم على اللغة والتكثيف الدلالي والرمزي، كما تعتمد على الحضور المكاني الذي يعد ملمحا مهما في تجربة صالح العامري في مجموعاته السابقة. كذلك نجد التعبير الدلالي عن الذات واضحا في غير نص من نصوص المجموعة؛ إذ تظهر معه دلالات متنوعة للذات المتشكّلة في النص الشعري.
إنّ المتأمل في لغة المجموعة الشعرية يجد أنّها قائمة على توليد الصور، وتكرار ابتكارها، وانزياح المعاني من خلالها إلى مساحات شعرية خصبة؛ فاللغة المستخدمة في المجموعة لغة تحيط بالأشياء، قادرة على الإحاطة بمضمون الوصف الداخلي للأشياء والأمكنة والذات المتشكّلة داخل النص.
تقودنا حركة اللغة في المجموعة إلى التعبير المكاني وارتباطه بالزمن، أو التعبير عن استدعاءات الشخصية وحضورها النصي، كذلك تُقدّم ملمحا لتفتيت الشكل الشعري، والاشتغال على القطع النثرية مقدّمة تداخلا بين مفهومي الشعر والنثر في النص الحديث.
ففي حديث اللغة عن الملمح المكاني، نجد المكان حاضرا في نصوص المجموعة بدقة واشتغال فني عالٍ، وهو ملمح مهم في التجربة الشعرية لصالح العامري، بحكم الهوية المرتبطة بالمكان العماني أو تعزيزات الثقافة الحديثة المتمثلة في ذاكرة المدن والمتشكلة في وجدان الشاعر.
هنا، نجد حضورا لمسقط على سبيل المثال في نص (ملمح مكاني)، ومعه يقوم النص باستحضار المكان العماني/ مسقط التي تمثّل في المقاطع الأولى غربة متشكّلة، ثم تنتقل إلى تمثيل علاقات قائمة على التشرد والضياع، ثم سرعان ما تصبح مسقط في النص عاشقة ورحلة حب يبحث فيما بينها عن صورة شعرية قائمة على علاقة مطاردة بين العاشق والمعشوق. يوجه العامري خطابه إلى مسقط في صورة أنثى، وهو تعبير استخدمه غير شاعر في خطابهم الأنثوي مازجين بين الخطاب الأنثوي الرومانسي وبين المكان، قائلا:
مسقط، يا حبيبتي المثخنة بالخمر والجراح
تعرّي هذه الليلة
استندي على الجمرة الصغيرة في خاصرة الأسلاف
اركضي بي في الطرقات مجنونة بالشهاب المنفجر الذي يحتطب الأفق،
اندفعي في الكتب الملدوغة بالألحان
اقرئي وجهي ووجهك على بصيص الحانة المخمورة
كما تستحضر اللغة المكان البعيد في نص (شرفة جورجية) محاولا تقريب المسافات البعيدة، فاللغة تعمد إلى تقريب البعيد، واقتران العالَمِ الشعري بالمكاني، يقول:
صباح الخير
أيتها الشرفة الحبلى بالكنز
أيتها الغجرية المولودة على سفوح القوقاز
صباح الخير
يا شجرة الدردار الناعسة
أيتها الملكة المتوجة في الأفق
أيتها الشعلة الخضراء
المتفشية في موسيقى الأزمنة
وقلائد القصائد
لم تكن لي شرفة من قبل
أحلم فيها بعرائس الفجر
وظلال المسافرين
لم تكن لي أرجوحة صغيرة
أقع منها على اللهفات والأناشيد الرعوية
لذا سأحملكما معي
إلى الصحراء
إلى البحر
إلى قلبي
سأعزف بكما الليل والظلال
مرتعشا بالحنانات
التي هبت فجأة من أعالي الجبال الجورجية
وهي تعزف الألم والنصر
الرقة والكبرياء
الزجاج والفولاذ
الأنوار العارفة
والنيران المقدسة.
هذه المسافات التي يحاول الشاعر التقريب بينها لا تخلو أن تكون مسافات زمنية أيضا، فالمسافة بين الماضي والحاضر تتمثل في المسافة بين القرية التي تركها وبين المدينة التي اختطفته منها؛ لذا جاءت أول ثلاثة نصوص في المجموعة تشي بروائح التصادم بين المكان الأول والمكان الحديث، وإن لم يكن التعبير المكاني حاضرا بصورة مباشرة، يقول في نص (نبوءة):
مذ كنت طفلا،
يشتبك مع أقواس قزح الأكوان
يقفر غزلان الكلمات
أدركت أنني واقع، لا محالة،
في عين عصفورك المشاغب
في هوائه المجدول سهما من لهب
لحنا سيالا بالربيع والقمح الذهبي
مذ كنت بعيدا جدا،
في آخر القرى وفي أقصى الآبار،
كنت أنتظر، على الكرسي البوهيمي،
قطار صباحك الذي تتعالى من نوافذه
صيحات مزامير البن
وأغنيات الأشواق العارية
كنتُ، هناك مع كسرة خبزي اليابسة،
أصوب عيني جهة لؤلؤتك المظفرة
وهي تتنزل في بحري اليتيم
هذا الحنين اللغوي إلى المكان البعيد/ القرية المتمثل في ألفاظ: (القرى، البنّ، كسرة الخبز، الآبار، العصفور، القمح، الطفولة) يقابلها طابع التحديث للمدينة، وألفاظ مقابلة لما يُتخيّل في مقابل القرية، عندما كتب نصه (رقصة) قائلا:
لا زمن لي إلا دورتك المجنونة في قلبي
لا دوار لي إلا أرضك الموارة بالأعياد
لا سكرة لي
إلا حاناتك التي بلا سقف ولا قوانين
أنت الرقصة، التي تقودني في سلالم الغيب
إلى نشيد المجرات
أنت المجهول المندفع كـ «غراديفا»،
في وثبة السر،
أنت الصندوق المكنون
الذي يتفتح على اللذائذ المختلسة
بينما الرمان ينبجس في معدني
والقمر يندلع بالصور الوحشية
بالعشتارات الساهرات على الحصاد
الناجيات من أي طوفان غابر أو قادم.
ثم يعود في نص (هدب) إلى المزج بين الذاكرتين والصورتين وكأنه في مرحلة التشظي الكبير بين عاطفتين، يقول في هذا النص:
هكذا وجدتني، رغم أنف المصائر،
مقيما في كوخك المقمر الذي تجتازه ظلال الصفصاف
مرابطا عند الجسر المؤدي إلى رعشتك منهوبا في هدب عينيك
مشتعلا كنهر من حنين جارف
إلى أطيافك المتناسلة في البراري
أطيافك العارية
حديقة محزومة بالبروق
التي تصرع الفرسان.
وهنا يذكّرنا العامري بالسياب على سبيل المثال، الذي لم تستطع بغداد أن تنسيه جيكور القرية الصغيرة، وظل محافظا على ذاكرته، حتى توغّلت تقاطعات الغربة والقلق من المكان الحديث في نصوصه الشعرية.
كما تقودنا اللغة إلى شخصيات مختلفة في مجموعته، موظّفا لها التوظيف القائم على إنتاج الدلالة التي تتناسب وهذه الشخصية؛ حضرت عائشة ومريم حضورا عمل على توسيع دلالات النص ومنحه بُعدا رمزيا تأويليا حيث تتعدّد الصور وتتجانس مع المفردات، كما حضرت شخصية الطفل القرصان واصفا له:
بعد أن تركتموني وحيدا هناك
في تلكم الأراضين الحيزبون
في تلك الجبانة الموحشة
تضرعت للشجرة أن تُرضِعني من ثديها المشوك
للأغصان الرطبة أن تسعطني بلعابها
للظلال أن تنحني على أسناني اللبنية
للشمس أن تغذي عظامي بالجمرة التي لا تنكسر أخلاقها المشاغبة
للغابة أن تنسجني على هيئة مقلاع أو كرسي ذي جناحين
بعد أن تركتموني هناك بذرة صغيرة
كادت الريح المجنونة أن تأخذني رافعتها إلى الهاوية
الشلال الأهوج أن تدهسني مركبته المسرعة
البركان ذو العين الواحدة أن تسحبني عضاءته بلسانها الطويل
لكنني - أيها السم، أيتها المكيدة - تشبثت بغريزة النمور
التي تنشب أظافرها في أراجيح الزمن
احتميت بهواء الطائر
كي أرتفع في الأفق
غراما أو لوعة ممطرة
قلت لجسدي الضئيل أن يتربى على العسل والجراد
لكي ينمو قرصاني
قلت لعيني أن تبرقا
كي أحتمي بالأهلة والأعاصير
قلت لصرختي المنسية
أن تزرع بستانها في الأرض التي تتخرب أشواقها ومآقيها
قلت لعزلتي المجيدة
أن تكون متاريسها أجنحة...
نلاحظ اشتغال النص على رموز متعددة تعطي النص مساحة في التأويل والاتساع الدلالي؛ فشخصية الطفل القرصان تجمع بين نقيضين: الطفولة المتمثلة في البراءة واللعب وحب العالم، كما تجمع صورة مخيفة للقرصان قائمة على البطش والاعتداء. هكذا هي صورة الحياة، أنتج منها النص صورة متضادة للأشياء في تشكّلها، وعليه يتلاعب النص برموزه ويعمل على منحها دلالات تؤثر في التشكيل الشعري، فالأشجار لها ثديٌ تُرضع منه، فقد رضع منه الطفل الذي تُرك وحيدا في الأرض الحيزبون، واحتمى بالظلال والأغصان والشمس والغابة التي تشكّل في دواخلها عالما متخيلا يحيل على صور إنسانية.
يكرّر الشاعر عناصر الطبيعة التي يحتمي خلالها باللغة مشكّلا بُعدا تصويريا لتلك الشخصية، وهذا ما يمثّله كل من الشلال والبركان والريح في عملية البناء الشعري.
يمثّل الطفل القرصان صورة واقعية في عملية التخييل؛ لذا يظهر في شخصية الناقد للواقع، والمطّلع على العجز الإنساني. إنّ الطفل القرصان هو صورة متكررة لنا جميعا قد يرى الشاعر أنها انعكاس واقعي لصور مشاهدة:
ها أنا ذا على المشارف
أرقب عودتكم المخزية
ها أنا الذي لا تتذكرون ولا تعرفون
تقف طفولتي على ضفاف الأنهار
قرصانا من لحم ودم
ها أنا ذا تلك البذرة القديمة
التي جفت واخترقت السماء
واقفا بمرصاد الطفولة وأنغامها
كي تبتلعكم الحرب
أو يتخطفكم الطوفان،
كي تناموا قريري الأعين على مائدة الرماد أو تلفظكم السفينة،
كي يردمكم الموج أو ينهركم الفنار
بينما أنا أعزف ولع الأكورديون
وتفاحه الصباحي
قبالة مسافرين مجهولين
وطيور جريحة
تكتب الأفق.
للغة إذن قيمة كبرى في التعبير الشعري، فما تقدّمه إثارة وإنتاج هو ما يعكس التجربة الشعورية والتخيلية في العملية الشعرية. لقد أسهمت اللغة في خلق جوٍ شعري متماسك ومعبّر عن المكان والإنسان والشعر.