جمهور المسرح الرقمي
من هو جمهور المسرح الرقمي؟
يحق لنا أن نسأل ونتدبر ونفكر في ماهية هذا الشيء المدعو المسرح الرقمي وما ظهر معه من تعبيرات ومصطلحات كمثال: العرض المسرحي الرقمي، والأدب الرقمي، والنقد الرقمي، إذ تعيدنا المصطلحات السابقة إلى مقولات قديمة لكنها متجددة أخذت بالظهور والانتشار منذ ستينيات القرن الماضي وما بعدها، كمقولة موت المؤلف لرولان بارت، ومقولة موت الناقد لرونان ماكدونالد، فهل سنشهد على هذا الغرار: موت المسرح، وموت الجمهور؟
وللأمانة العلمية فإن سؤالي من هو جمهور المسرح الرقمي، يتصل بسؤال سابق طرحه للنقاش الباحث إبراهيم عبدالله غلوم في كتابه (الخاصية المنفردة في الخطاب المسرحي) يحوي الكتاب عشرة فصول حول المسرح في الخليج والوطن العربي، ومن بينها جاء الفصل الثامن بعنوان "أسئلة النقد وإشكالية الجمهور" أثار الباحث هذا السؤال: "هل يجرؤ أحد على أن يسأل من هو الجمهور؟ ومن هو الجمهور الذي نتحدث عنه؟" يجيب على ذلك السؤال إجابة تحليلية عمّق فيها نقاش بعض القضايا والعلائق المشتبكة والمتداخلة في بنية ثقافة المجتمع العربي، منها ما يلي: علاقة النقد المسرحي مع الجمهور، وهل يقدر النقد على تطوير التجارب المسرحية أو تطوير ذوق الجمهور؟ وغياب الدراسات المتصّلة بالجمهور الذي يعدّه كأحد مؤشرات تخلف الظاهرة الثقافية العربية، والغياب المفجع للديمقراطية ولحريات التعبير والتفكير، معللا هذا الغياب: "في عدم دراسة حركة الرأي العام، أو التعرّف على التوجهات المختلفة التي تحتشد عند بؤرها الأفكار المؤثرة على مفاهيم الناس، ومعتقداتهم وتقرير حاجاتهم وميولهم...إلخ".
عطفا على هذا السياق، نتذكر ما أطلقه المسرحي سعدالله ونوس في بياناته نحو مسرح عربي جديد حين رأى أن "المنطلق الأساسي والصحيح للحديث عن المسرح؛ تبلوره وحلّ إشكالاته هو الجمهور" ويبحث ونوس في مقولة مهمة "ما دام المسرح حدثا اجتماعيا، لا معنى له، إن لم يتمّ أمام متفرجين أو بينهم" ولكي نتعرّف على هؤلاء المتفرجين، علينا معرفة التركيبة الاجتماعية والظروف الثقافية والمشاكل وصور المعاناة السياسية والمتغيرات الاقتصادية التي تؤثر في معيشته، بل إن ونوس ربط مشكلة الجمهور بمشكلة الثقافة في الوطن العربي، ويتفق رأيه كما أرى مع رأي غلوم حين قال: "إننا نرى طبيعة الجمهور العربي مرتبطة أشد الارتباط بأزمة المجتمع العربي الحديث، وإذا كنا نعجز الآن عن وضع تحديد علمي لطبيعة هذا الجمهور فما ذلك إلا لأننا نعيش أزمة متفجرة قوامها كثرة ادعاءاتنا بالعمل من أجل الديمقراطية وسط غيابها".
ويمكن أن يُفجر سؤالنا عن جمهور المسرح الرقمي وهذه خصائصه نقتبسها بتصرفنا من دراسة بعنوان (المسرح الرقمي بين الثابت والمتحول) للباحث محمد العنوز على النحو التالي: أولا: الجمهور هم العنصر الثاني في صالة العرض ونظرا لآلية جلوسهم فإنهم يتسمون بالجمود والسكونية. ثانيا: يشترك في تقديم المسرح الرقمي عدة كتّاب، كما قد يدعو المتلقي/ المستخدم أيضا للمشاركة فيه. ثالثا: يقوم المسرح الرقمي بإشراك المتلقي/ الجمهور في أحداث المسرحية في مختلف مراحلها، وذلك من خلال وضعه أمام مواقف مشهدية وسيناريوهات تفرض عليه اختيار طرق مواصلة المشاهدة. رابعا: يهتم المسرح الرقمي بقضايا الإنسان السياسية والاجتماعية ويُوجد حوارا وتواصلا بين الممثل/ الممثلين والمتلقي/ الجمهور ويعمل على إيجاد حلول لها"، ويختتم العنوز دراسته بالقول: "إن المسرح الرقمي له راهنيته وله الحق في التجريب، وعلى المبدعين أن يولوه العناية اللازمة التي يستحقها، وعليه العمل على اللحاق بركب التجربة الغربية في هذا المجال واستثمارها بشكل جيد فيما يعود بالنفع على تطوير التجربة المسرحية الرقمية العربية"، وتعقيبا على تلك الخصائص أتسائل: منذ متى كان المسرح التقليدي لا يهتم بقضايا الإنسان السياسية والاجتماعية ولا يُوجد حوارا وتواصلا بين الممثل والجمهور؟ ومنذ متى كان على المسرح والفن عموما أن يعمل على إيجاد حلول لمشكلات السياسة والاقتصاد والثقافة؟
إن هذه الخصائص والمميزات يمكنها أن تفجر لدينا طاقات أخرى تقابلها تبحث في مدى قدرة مجتمعاتنا أن تكون مجهزة ومتطورة علميا وتقنيا. فالمسرح الرقمي التفاعلي لا يقتصر على وجود أجهزة للحاسوب موزعة في المقاهي والمطاعم والفنادق والبيوت، بل يحتاج إلى شبكة نت واسعة وقوية. ألا نسأل أنفسنا -كيف لمجتمعات عربية تعاني من انقطاع في الكهرباء والحروب والفساد السياسي والفقر والبطالة والتسريح من العمل وانهيار حادّ في مستوى المعيشة وتراجع في مستوى التعليم الجامعي وغيرها من المشكلات- أن يزدهر فيها المسرح الرقمي ويحقق حضوره ونصوصه ونماذجه وجمهوره؟
إلينا واقع البحث العلمي والتقني حسب دراسة أعدها الباحث عبدالقادر محمد السيد بعنوان (البحث العلمي في الوطن العربي: الواقع ومقترحات التطوير-2018م) فيقول: "إن البحث العلمي في الوطن العربي يعاني من أزمة كبيرة في كل الجوانب المتعلقة به مقارنة بالدول المتقدمة الأخرى، تتحدد معالم تلك الأزمة فيما يلي:
1- حالة الفقر العامة في أغلب المجتمعات العربية.
2- افتقار الدول العربية عموما إلى سياسة علمية وتكنولوجية واضحة المعالم.
3- ضعف البنية التحتية للأبحاث النظرية والتطبيقية من مختبرات وأجهزة ومكتبات علمية.
4- ضعف إنفاق الدول العربية على البحث العلمي، يقدر حجم الإنفاق على البحث العلمي على مستوى العالم سنويا حوالي 2.1 % من دخله الوطني أي حوالي 536 مليار دولار، ويقدر حجم إنفاق الولايات المتحدة وأوروبا ما نسبته 75% من الإنفاق العالمي، حيث يصل إلى 417 مليار دولار، كما يصل حجم إنفاق الولايات المتحدة لوحدها 168 مليار دولار أي 24% من إجمالي الإنفاق العالمي، ثم يتوالى بعد ذلك ترتيب دول العالم المتقدم: ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، كندا، كما ارتفعت نسبة الإنفاق على البحث العلمي في الصين مؤخرا إلى ما يقرب 2.5 % حيث بلغت ميزانية الصين مؤخرا إلى ما يقرب من 136 مليار دولار، أما باقي دول العالم بما فيها الدول العربية فلا يتجاوز إنفاقهم على البحث العلمي أكثر من 116 مليار دولار. وهذا المبلغ ليس للوطن العربي فيه سوى 535 مليون دولار، أي ما يساوي 11 في الألف من الدخل القومي لتلك البقية من العالم".
5- هجرة العقول العربية.
6- اعتماد تمويل البحث العلمي بالعالم العربي على القطاع الحكومي.
7- ضعف التعليم الأساسي في العالم العربي.
8- النظرة السلبية للمجتمع العربي نحو البحث العلمي.
9- الاستبداد السياسي المتمثل بفقدان حرية الرأي وغياب الديمقراطية في مناحي الحياة العامة.
بعد تعداد الملاحظات السابقة وتأملها نسأل أنفسنا: ما هي المجتمعات التي يُمكن أن يحيا فيها جمهور المسرح الرقمي؟ الجمهور كيان اجتماعي ينطلق من مفهوم كبير عام وشامل للمسرح كظاهرة اجتماعية حية. وتتحرك الدراسات المسرحية اليوم وغير المسرحية كدراسات علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الأنثروبولوجيا بالبحث في قضايا متعددة حول سوسيولوجيا وسيميولوجيا المتفرج. ويحصر المعجم المسرحي الجمهور في صفات مشتركة تؤهله لينطبق عليه مصطلح جمهور المسرح، وتلك الصفات هي:
"أولا: الرغبة في متابعة عرض محدد. ثانيا: الديمومة والتكرار؛ أي الرغبة في مشاهدة عرض آخر له نفس المواصفات. ثالثا: وجود إطار اجتماعي ثقافي محدد (كالمدينة، القرية) يتكون الجمهور ضمنه. رابعا: وجود فصل ما بين الجمهور ككيان مستقل وبين الممثلين ككيان من نوع آخر، وبين حيز الفرجة المستقل وحيز اللعب الذي يتم فيه العرض، ففي العرض المسرحي الحي هناك تتفاعل عناصر المشاهدة عبر المشاركة الحية، باعتبار خشبة المسرح مكانا متعدد اللغات التعبيرية والصوتية والجسدية والبصرية.
على هذا النحو، فما نقرأه عن المسرح الرقمي التفاعلي وتصوّر جمهوره والاهتمام به والدعوات الصريحة إلى تبيئته في الثقافة المسرحية العربية (هي دعوة لتحطيم الإنسان في المسرح التقليدي كما يقول بعضهم)، من منطلق أننا بواسطته سوف نسير إلى مسرح المستقبل! وينبغي أن يجعلنا ذلك أن نكون قد تحررنا أولا من واقع مجتمعاتنا المُستعمرة، وأن نبني الإنسان فينا، وأن نغرس قيم العقل والعلم والتفكير الفلسفي والنبل والواجب والعدالة وأن نتخلى عن الأنانية والنفاق، لأن إنسان أو جمهور المسرح التقليدي ما زال يؤمن في أرسطو وشاعريته، برغم محاولات تحطيمه وقتله، وما زال جمهور ذلك المسرح يعشق الحكاية ويستعذب أساليب التعبير عن أنماط الوجود بواسطة اللغة والكلام.