جدل الإضاءة والإنارة في العرض المسرحي
إلى المسرحي باسم عادل عبقرينو
يقول شاعرنا المتنبي:
خُذ ما تراهُ وَدَع شيئًا سَمعتَ بهِ
في طَلعَةِ الشَّمسِ ما يُغنيكَ عن زُحَلِ
حول هذه الجزئية والعصف الذهني لعنوان المقالة أدين بكتابة هذا المقال إلى الصديق (Abkareeno) باسم عادل، حيث كتب على حائط صفحته في الفيسبوك ما يلي: «أذكر نفسي وإياكم؛ يجب أن تحقق الإضاءة المسرحية الحد الأدنى من وظيفتها وهي أن تضيء جسد الممثل وبالأخص وجهه حتى لا نحرم المشاهدين من متعة الأداء ومتابعة انفعالات وتعبيرات وجه الممثل، فلا معنى للإضاءات الخافتة ذات الجماليات الدرامية ونحن نفقد أدنى مستوى من الدور الوظيفي للإضاءة» وإذّ أتفق مع الطرح السابق، فإنني أفكر بهذه التساؤلات التي أظن أنها من البديهيات:
أيهما أكثر تأثيرًا وإشعاعًا: الشمس أم الشمعة؟ هل ينفع طرح السؤال بهذا الشكل؟
في ظلال هذه الآية القرآنية الكريمة: (الله نور السماوات والأرض) أيّهما جاء أولا: النور أم الضوء؟ هل يأتيان بمعنى الترادف أم التمايز؟
أيهما يأتي أولا على وجه الممثل، الإنارة أم الضوء؟
عندما يدخل الممثل حاملا بيده شمعة أو فانوسا في مشهد يحدث في زنزانة حالكة والإضاءة تملأ الخشبة! ما الغاية من ذلك التعارض؟ بماذا يجب أن نفكر في تلك اللحظة، بالإنارة أم بالإضاءة؟ هل هناك خطأ فنيِّ إخراجي، أم ابتكار جديد للشمعة والإضاءة وحلكة الظلام؟! ألا ينتبه المخرجون إلى هذه العناصر؟
لنذهب إلى سؤال أبعد: هل هناك رؤية فلسفية تقوم عليها تقنية الإضاءة في العرض المسرحي؟
سؤالي السابق مقصود لذاته، الهدف منه ليس التقليل من وظيفة الإضاءة في العرض المسرحي ولا إزاحة دور المخرج ومنفذ الإضاءة ومصممها، ولكنه البحث فيما وراء البعد المعرفي لمفهوم الضوء والنور في الكون كله.
من نافل القضايا المُسلم بها كبديهيات كما ذكرت في الفقرة السابقة أن الفروق الموجودة بين الإضاءة والإنارة عليها كلها إذا جرى توظيفها في العرض المسرحي أن تأتي للكشف عن وجه الممثل وتعبيراته المادية والنفسية، لتأكيد الدلالة الجمالية الكاملة للعرض. فإذا عجزت الإضاءة عن تأدية ذلك، علينا البحث في زوايا أخرى.
لقد شغل العلم والتفكير الفلسفي بتناول مفهوم الضوء وقوانينه الطبيعية، وللفلاسفة العرب نصيب من هذا التفكير. في مقالة علمية بعنوان (فلسفة الضوء: في ماهيته وكيفية انتشاره ونواميسه للفيلسوف الطبيعي الأستاذ الحسن بن الحسين البصري المشهور بابن الهيثم) يجري التفريق بين معاني ماهيات ثلاث وفقا لمذهب الفلاسفة ومذهب أصحاب التعاليم، والماهيات هي: ماهية الضوء، وماهية الشعاع، وماهية الشفيف. يقول: «فالضوء عند أصحاب علم الفلسفة في كل جسم مضيء من ذاته هو صورة جوهرية في ذلك الجسم، «...» والشعاع هو كل ضوء يمتد على خطوط مستقيمة في جسمٍ مشفٍّ، أكان الضوء ضوء الشمس أو كان ضوء القمر أو كان ضوء الكواكب أو كان ضوء النار أو كان ضوء البصر، والأجسام المُشّفة هي كل ما ينفذ الضوء فيها ويدرك البصر ما وراءها، وهي تنقسم قسمين: أحدهما ما ينفذ الضوء في جميعها، والآخر هو ما ينفذ الضوء في بعض أجزائها دون بعض «...» وشفيف الأجسام المُشّفة هو صورة مؤدية للضوء، والشفيف يختلف، ويعتبر اختلاف الشفيف بزوايا الانعطاف...إلخ» وفي المقالة يستطرد الفيلسوف الشرح لتوضيح الكيفية التي يحصل بها الشفيف عن الأشد شفيفا؛ نظرا لاختلاف زوايا الجسمين.
عطفا على جهد العلم والفلسفة، فللمعاجم المسرحية والقواميس والدراسات المختصّة جهد في تتبع تاريخ الإضاءة وتطورها وخصائصها ووظائفها وأنواعها وأجهزتها التقليدية والمعاصرة في العرض المسرحي عبر العصور. فهي أحد علوم المسرح وعنصر أساسي من عناصر العرض. يعرّف المعجم المسرحي مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض لماري إلياس وحنان قصّاب الإضاءة بعدها «أحد العناصر التقنية في تنفيذ العرض المسرحي إلى جانب المؤثرات السمعية. وكانت وظيفتها الأساسية هي إنارة المسرح ثم تطورت عبر الزمن فصارت تستخدم بمنحى درامي ودلالي».
والإضاءة انطلاقا من هذا التعريف هي صناعة بشرية شأنها شأن أي عناصر يدخل العقل البشري في تركيبها واختراعها؛ لذلك لم تكن المسارح التي تقدّم عروضها في وضح النهار بحاجة إلى الإضاءة المصطنعة «إلا لخلق الإحساس بحلول الظلام في الحدث ولتحقيق ذلك كانت تستخدم الفوانيس والمصابيح كنوع من الإكسسوار للدلالة على حلول الليل». وعلى المخرجين الانتباه إلى الأجواء التي يستدعي فيها النص وجود انتقالات زمنية محددة، دون التضحية بالعنصر الجمالي إذا احتاج المشهد إليه، أما أن تنفلت الإضاءة وتختل فذلك سينعكس بالضرورة على العرض ككل.
أما الإنارة بحسب المعجم المسرحي فكانت جزءا من تجهيزات المسارح الفخمة في إيطاليا وفرنسا (ثريات مجهزة بشموع تعلّق في منتصف صالة العرض وتضيء الصالة والخشبة معا)، وكان تبديل الشموع وإشعالها يتطلّب قطع العرض المسرحي كل نصف ساعة مما أثر على شكل الكتابة وكان أحد أسباب ظهور التقطيع إلى فصول»، والتقطيع الحاصل يُحقق اتساعا ورحابة للكتّاب الدراميين، وقد يؤدي ذلك إذا تمادى فيه المؤلف، إلى الإصابة بالملل والضجر.
ويدخل في مفهوم الإنارة في العرض المسرحي مساقط النور من الأعلى التي يتم توجيهها لتسلط الضوء على مكان محدد على الخشبة ويشير المعجم إلى تعامل الموسيقار ريتشارد فاجنر مع الإضاءة «كعنصر يُبرز طباع الشخصيات من خلال مرافقة ظهور كل شخصية من الشخصيات بلون إضاءة ينسجم مع طباعها (الحمراء مع الشخصية الشريرة والزرقاء مع الشخصية البريئة، كما أنه فرض العتمة في صالة المتفرجين للمرة الأولى في تاريخ المسرح الغربي» وهذا يُذكرنا بصعوبات تنفيذ الإضاءة في المسارح القديمة التي دعتها ظروفها الموضوعية في ذلك الزمن من الحضارة إلى توظيف الشمس والنار للإيحاء بطقسية ما.
إن وظائف الإضاءة في العرض المسرحي متعددة، وأبرزها كما يبدو في عقل بعض المخرجين والمصممين تحقيق أعلى نسبة من خلق الإيهام ومساعدة المتفرج الدخول إلى الحدث والعرض المسرحي بسهولة ويُسر، وهذا أثر على غياب كشف وجوه الممثلين. ويتصل بهذا ما ذهب إليه أدولف آبيا فنظر إلى الإضاءة كوسيلة لإضاءة المكان المسرحي وللممثل في آن، إذ تمنحهما قيمة تشكيلية كبيرة، فأفرغ الخشبة من الإكسسوار وجعل الإضاءة بديلا عن الديكور.
يستطرد المعجم في تتبع تطور الإضاءة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والقفزات العملية التي حصلت والمآخذ على كل قرن، وصولا إلى المسرح الحديث الذي أخذ يوظف الإضاءة وتقنياتها المتطورة بفعل العلم وجاهزية المسارح لاستيعاب التطور التقني من ذلك الاستخدام المكثف لتجهيزات الإضاءة الثابتة، ومسلطات الضوء الموجهة، واستخدام الفلاتر لتنقية الضوء وأشعة الليزر ولوحات التحكم الإلكترونية التي سهلت عمل هندسة الإضاءة وتنفيذها وجعلا منها اختصاصا جديدا ووظفوا تقنية يضطلع بها مدير الإضاءة الذي يعمل إلى جانب المخرج والسينوغراف معا.
لا شك أن الكتابة الدرامية للمسرح تؤثث هي أيضا لأنواع الإضاءة المستخدمة في العرض المسرحي، وعلى المخرج الوعي بالجانب المعرفي والفلسفي والإبداعي للشخصيات المسرحية، واستنطاق الممثلين القادرين على تلبية فكرة الارتقاء بالعرض ليس كفن «بصري يستعير تقنياته من السينما» بتعبير المعجم المسرحي، وإنما بصفته صيغة لتدبر الكون والوجود الإنساني فيه.