توقيع الجسد بالعلامات

14 مايو 2023
14 مايو 2023

مثلت العلامات الجسدية في التاريخ القديم وسيلة نبذ وإقصاء، كأن تُترك علامة على العبيد في اللحظة التي تُمحى فيها فرديتهم لتكتب تبعيتهم لسيد جديد. رافقت العلامات المجرمين أيضا والسجناء ومدنسي المقدسات، ففي القرون الوسطى على سبيل المثال، في «بروما» كانت أقراط الأذن تحملُ علامة سلبية، ولم يتخلص قرط الأذن من هالته الضارة تلك إلا في القرن الخامس عشر. ولنا أن نتخيل أيضا سجينا يُكوى برسم زهرة زنبق مصحوبة بحرف v على كتفه، فتصاحبه الزهرة إلى الأبد كدليل إدانة، أو أن تحرق خدود الجنود الذين أساؤوا للقيادة العسكرية في عام ١٧٨٧م كوصمة عار! ولم يتغير هذا الواقع -للأسف- إلا بعد مرور مائتي عام تقريبا، عندما مُنع إحراق الجلد البشري عام ١٨٥٢م.

هكذا ارتبطت الوشوم بالرعب والإساءة، أو بالبدائية وانعدام التحضر، كما يُمهد دافيد لوبروتون في كتابه اللافت «علامات هويّة»، ترجمة عبدالسلام بن عبدالعالي، والصادر عن دار سبعة.

ويُدين لوبروتون الفهم الضيق ويعده جهلا بالدلالة الثقافية والحميمية في الأوساط الشعبية، ولذا نجده يبرر لنا استيقاظ الوشوم والعلامات من رمادها لتكتسب معاني جديدة.

الوشوم والثقوب والخدوش والحروق قد تبدو وسيلة جذب انتباه، إلا أنّ لوبروتون لا يراها مجرد افتتان عابر وإنّما ظاهرة ثقافية. فهذا الكتاب المعني بتطور العلامات الجسدية في المجتمعات، يتناول هذه الظاهرة بعد أن أجرى لوبروتون حوارات مع 400 شخص حملوا على أجسادهم علامات مختلفة. بدا أنّ بعضها ملاذ لتناسي الآلام الشخصية، وبعضها كان تزيينا للجسد أو ابتكارا لهويات متحولة.

يشير لوبروتون إلى أن الديانات التوحيدية حظرت العلامات الجسدية، باعتبارها مساسا بخلق الله، ولذا صاحبت العلامات -في وقت ما- المنحرفين الذين يأملون تأكيد تمردهم وعدم مبالاتهم بالأحكام التي تصدرها المجتمعات ضدهم.

رسم المسيحيون الأوائل علامة الصليب على جلدهم، نقش الضباط الرومان القدامى اسم الإمبراطور وتاريخ تجنيدهم، وقد وصف فلوبير الأمر في أحد أعماله قائلا: «كنا نتعرف على المرتزقة عن طريق ما على أيديهم من وشوم».

في المجتمعات القديمة دلت العلامات الجسدية على اغتراب الفرد وسط الجماعة، أما اليوم فتدل على عكس ذلك، حيث يتبدى الجسد كعلامة لانفصال الفرد عن نسيجه الاجتماعي بإرادة تامة، فعندما يفقد الشخص علائق المعنى والقيم التي تشده للآخرين، فإنّه يجعل من جسده -عن قصد- عالما مصغرا، وبحثا عن هوية مقبولة.

المفارقة.. بينما نجدُ الآن تناقصا في المجتمعات التقليدية التي تثقب جسدها أو تضع الوشوم عليه، نجد أنها تطور بشكل سريع في المجتمعات الأكثر حداثة، وكأن الجسد «مسودة ومادة غير مكتملة ينبغي سد نقصها عبر هذه الإضافات»، ولعلنا نبالغ فنذهب إلى ما ذهب إليه لوبروتون باعتباره شكلا من أشكال التحرر أيضا.

ازدهر خيال جديد تجاه أجسادنا، كما ازدهر الفن المتعلق بها، بسبب القطائع الاجتماعية بين الأجيال والثقافات، التي دفعت المرء لأن يبتكر هويته. الوشم في السبعينات والثمانينات مثّل انشقاقا اجتماعيا، وكان مُرادفا للتهميش والمعارضة والجنوح، لكنه لم يعد كذاك، فالعلامة قد تكون في بعض صورها حماية ضد لا يقين العالم!

وكما يبدو فالزمن هو أول من يُسجل علاماته على الجسد البشري، وكذلك تفعل الجروح ومن ثمّ العلامات التي نُحدثها بأنفسنا. لكن لتلك العلامات ثمن يدفع، ويقصد لوبروتون الألم الجسدي. فهو يرى بأنّ الألم تجربة ذاتية ليست متعادلة بالضرورة مع الفعل، إذ تختلف من تجربة شخص لآخر. وكأن الألم ضروري لإدراك ما أقدمنا عليه وكأنّه منبع اللذة وتأكيد على وجود الذات.

يخلص لوبروتون إلى أنّ «العلامة» هي سردية جديدة للذات، تُعيد صياغة الوجود كنوع من التوقيع على جِلدها، وكأنّ الجسد هو من يبتدع مظهره أو يخترع الأشكال التي تلده.