تنويعات على ماهلر
عندما كتب توماس مان رائعته «الموت في البندقية»، اختار كاتبا ليكون شخصيته الرئيسية. الأمر عينه نجده في اقتباس الرواية من قبل بنيامين برايتن لعمله الأوبرالي. أما المخرج الإيطالي لوتشينو فيسكونتي، فحين حول العمل إلى تحفة سينمائية، جعل من الشخصية، موسيقيا، ما أتاح له بجعلنا نسمع «صوت المبدع». من هنا جاء اختياره لموسيقى ماهلر الذي كان معروفا يومها لدى الجمهور الواسع، لكنّ الفيلم قدمه على نطاق أوسع وجعله رائجًا منذ أكثر من نصف قرن. ربما لذلك أصبح فيلم فيسكونتي أكثر شهرة من الرواية، وقد تولد انطباع يومها بأن البطل «التعِس» لــ «الموت في البندقية» لم يكن سوى ماهلر نفسه.
لو عدنا إلى التاريخ قليلا، لوجدنا أن المؤلف الموسيقي الذي مات في مدينة البندقية، في نهاية القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين، لم يكن ماهلر، (توفي في فيينا العام 1911 وليس بالكوليرا)، بل هو فاجنر، (توفي عام 1883)، على الرغم من أن ما يرويه توماس مان لا يمكن له أن ينطبق على حياة ماهلر. بينما كان اختيار فيسكونتي مبررًا تمامًا، فإن لم يكن بسبب ما اختبره ماهلر في حياته، فعلى الأقل بسبب نغمة موسيقاه الخاصة، التي كانت مناسبة لتوضيح اضطراب جوستاف فون أشينباخ (بطل الرواية).
وعلى الرغم من أن توماس مان لم يُخفِ أبدًا حقيقة أنه «وضع» نفسه في شخصية أشينباخ، بما في ذلك انجذابه المضطرب للمراهق الوسيم تادزيو، فإنه كان يفكر أيضًا في ماهلر، الذي توفي قبل أسبوع من رحلته إلى البندقية. وقد كتب روايته هذه في الأشهر التي أعقبت هذه الوفاة. حتى أن بطله يحمل نفس الاسم الأول مثل ماهلر (جوستاف)، الذي يتمتع بمظهره الجسدي؛ وإذا لم يكن أرملاً وقت وفاته، فهو أيضًا في الخمسينيات من عمره. لذلك كان اختيار فيسكونتي الموسيقي واضحًا بذاته. في استحضار مشاعره «الفينيتسية» (نسبة إلى فينيتسيا)، ربما فكر توماس مان أيضًا في ماهلر، وإن كان بطريقة أقل وحشية مما كان سيفعله بعد فترة طويلة فيما يتعلق بشونبيرج، الذي تم تصويره كاريكاتوريًا في «دكتور فاوستوس».
من الصعب ألا نفكر في هذا الكتاب، وهذه الأوبرا، وهذا الفيلم، عندما نقرأ نوفيلا الكاتب النمساوي روبيرت سيثالر «الحركة الأخيرة» (100 صفحة، ترجمة فرنسية عن منشورات «فوليو»)؛ وليس في كلامي هنا أي كلام عن «سرقة» أدبية، بل نحن نواجه مثالًا ساطعا لما يسمى بالتناص الكامن في التنويع على موضوع معروف. يبدو أن المؤلف قد استلهم مشاهد معينة من الكتاب، من تكوينه العام، لتطبيقها على ماهلر. فالمشاهد التي تدور على سطح السفينة تستدعي تلك الموجودة على شاطئ البحر في نهر الليدو. فــ أشينباخ حساس تجاه تجسيد الجمال الذي يزعج الروائي الأبولوني بداخله. لأن ماهلر الذي يرسمه سيثالر لا يملك هذا النوع من المشاعر أمام الصبي الصغير المسؤول عن إحضار الشاي له، وهو يعترف بأنه يعتني به، وهو رجل يبلغ من العمر خمسين عامًا ويشعر، مثل بطل توماس مان، بالشيخوخة والمرض. لكن القارئ الذي يتذكر «الموت في البندقية» يتوقع شيئًا من هذا القبيل، إذ تسهم ذكريات الكتاب (المثال) إلى حدّ كبير في التشويق الذي يتحكم بالقراءة.
طيلة كتاب سيثالر يتوقع القارئ موت البطل، وهو أمر يتمتع الروائي بمهارة عدم سرده. وكان بإمكانه بسهولة أيضا تجنب هذه الشجاعة عندما ينقلها إلى وفاة ماريا، الابنة الكبرى لماهلر التي توفيت في الخامسة من عمرها بسبب الدفتيريا، والتي لا يزال والداها وأختها الصغيرة آنا يحتفلان بعيد ميلادها في 3 نوفمبر من كل عام، حين يرتبان الطاولة كما لو كانت الفتاة الصغيرة قادمة. لم يكن ماهلر يعلم (بالطبع) أنه بعد وفاته ستتزوج زوجته من عشيقها المهندس المعماري والتر جروبيوس، وأنها ستنجب منه ابنة، مانون، التي بدورها ستموت مبكرًا، ضحية شلل الأطفال في الثامنة عشرة من عمرها. يظهر المهندس المعماري بشكل خجول فقط في هذا الكتاب، لكن كل سطر يستحضر وفاة ماريا ماهلر الصغيرة يتردد صداه مع كونشرتو ألبان بيرج في «ذكرى ملاك»، حتى لو كان هذا العمل مخصصًا لذكرى مانون، في عام 1935.
لا يغيب موضوع الاضطراب الذي يسببه الجمال المتجسد عن ماهلر، حيث إن هدفه هو ألما المعشوقة والباردة، من دون أن يقال أي شيء عن رجولية الملحن الذي لم يسمح لزوجته بمتابعة عملها الخاص. ليس من المفاجئ أن يأخذ الروائي جانب الذاتية الكاملة لبطله، لكننا كنّا نود أن يمنحه هذا الاختيار الفرصة لتحليل عمل الملحن، أو عمل قائد الأوركسترا، أو الصعوبات في الجمع بين هذين الجانبين من جوانب مهنة الموسيقي. وبدلًا من ذلك، نجد أن الكتابة بهذا الترتيب لا تقدم أي خصوصية موسيقية تقريبًا، بل تذهب للحديث عن ثقل العمل والقيود الاجتماعية، لذا لم يكن الأمر ليختلف كثيرًا لو اختار المؤلف لزوج ألما أي مهنة بدلا من أن يكون موسيقيا. لا تشكل الموسيقى موضوع الرواية التي تركز، مثل الموت في البندقية، على مرض هذا الفنان البالغ من العمر خمسين عامًا والذي يشعر بأنه كبير في السن، مفتونًا بهذا التجسيد للجمال الذي لا يمكن الوصول إليه والذي هو، في الواقع، ألما.
في أسطورة جانيميد ، التي اعترف توماس مان بأنه فكر فيها في «الموت في البندقية»، فإن تجسد الجمال له شيء زائل، يكاد يكون غائبًا، لدرجة أنه، كما يقول هوميروس، «أجمل البشر على الإطلاق» كان «مختطفًا من الأرض»، ليخدم الآلهة كساقّ. في كتاب سيثالر، ألما، أجمل النساء، لديها نوع آخر من التلاشي: فهي لا تقترب أبدًا من ماهلر، الذي تعتني به من بعيد فقط. لكن ربما لو تحول الكاتب إلى فكرة أخرى لكنّا أمام كتاب مختلف تمامًا.
يتوقع القارئ الذي يكتشف هذه الرواية كتابًا يتمحور حول أعمال موسيقي لامع. صحيح أن اسم جوستاف ماهلر يظهر في الجملة الأولى لكننا لن نعرف الكثير عن الإبداع الموسيقي فيما يشبه إلى حدّ كبير الاختلاف في موضوع الموت في البندقية. وبرغم خيبة الأمل الأولية البسيطة، نجد أنفسنا ندخل في لعبة القراءة إلى النهاية.
كان جانيميد، ابن تروس، ملك طروادة، ذا جمال عظيم لدرجة أن جوبيتر أراد أن يجعله ساقيا له.
إسكندر حبش كاتب وصحفي من لبنان