تغريبة الحلم الجامعي

06 مايو 2023
06 مايو 2023

في الحلقة الأخيرة من مسلسل «التغريبة الفلسطينية» تمكَّنا من رؤية مخرج العمل، الراحل حاتم علي شخصيا، وهو يحرر الحلم من الواقع في شخصية «رشدي»، يعيد الحلم طليقا إلى هواء العدم وسرابه من جديد بعدما أصبح ممكنا ووشيكا رهن يديه، نتاجا لمحصلة الكفاح والتعب الذي خاضه كلاجئ فلسطيني من أجل الشهادة الجامعية، بعد أن ساقته نكبة شعبه من القرية إلى المخيم. أتحدث هنا عن ذلك المشهد الختامي الذي يمزق فيه رشدي رسالة قبول الجامعة الباكستانية بعد أن أعلنت سلطات الاحتلال عن سماحها للطلبة العرب بالخروج عن طريق الجسر نحو الأردن لإكمال دراستهم في الخارج: «وشو الفايدة»! كانت هذه عبارته التي كلل بها ذروة الموقف فارتقت به إلى بسالة الحسم ونبل الاستغناء. هذا المشهد بالتحديد يكثف إخلاص الفتى الريفي، الذي لم تفسده المدينة، لما يسميه رشدي «الحقيقة البسيطة» التي تبدأ من «هناك» حيث يشير بيده إلى أرض الحلم السليبة القابعة خلف الحدود الفاصلة بين الوطن المؤقت (المخيم) والوطن الأبدي؛ قريته التي نشأ فيها كأرضية ثابتة لأحلامه الأولى لكنها سرعان ما تزحزحت من تحت قدميه بزلزال العام ١٩٤٨.

ما زلت أتدبر المشهد مرارا وتكرارا لأفهم سر تعلقنا بحلم الشهادة الجامعية، ليس لأنها ستضيف لسيرنا الذاتية رتبة علمية واجتماعية فحسب بل لأننا نحلم أن نحملها غدا كبطاقة عبور من واقع يضيق بنا كما نضيق به إلى واقع آخر. هذا ما آمنت به عائلة الشيخ يونس عندما أصرت على إرسال ابنها علي (تيم حسن) إلى المدينة ليلتحق بالكلية العربية في القدس ثم بالجامعة الأمريكية في بيروت، أملا بأن تكون شهادته ليست مجرد تذكرة خلاص فردية من البيت الريفي الفقير، ثم من المخيم الذي يحاصره بصفته لاجئا، إلى عالم أرحب يخرج إليه بصفته المتعلم المثقف، بل ليكون رهان عائلة بأكملها للنجاة من المأزق التاريخي الذي سقطت فيه بندقية «القائد أبو صالح» وأصبحت جزءا من تراث الثورة وذكرياتها.

أما حسن (باسل خياط) فهو الطباق الشقيق لعلي. إنه الشاب الذي اختار أن يكتشف الأجوبة بجسده حتى غاص في تراب الأرض واختفى في جرحها، في الوقت الذي كان فيه شقيقه علي يبحث عن الأسئلة في المدينة مع رفاقه المتعلمين. ومع ذلك، فبعد وصول خبر استشهاد حسن عاد علي ليفتش عن كلمات معجمه الضائعة ليرثي أخاه الشهيد: «أنا الذي سرقت منه الكتاب والمدرسة والمحبرة، أنا هنا أبحث عن الكلمة التي تصفه، أستعير جلده لأكتب عليه شعري فيه، ولأشعر ببعض الرضا، لعلي أتابع حياتي من جديد-».

ماذا لو أن نيل الحق في التعليم لم يكن في يوم من الأيام بهذه المشقة؟ كم من أبطال الحكايات الذين سنجدهم في منتصف الاستدارة التراجيدية يبدلون سياقهم الواقعي فقط لو أنهم تمكنوا من تأسيس حياتهم الجديدة التي ندعوها بالمستقبل انطلاقا من المقعد المدرسي؟ كم منهم سيختار لمستقبله موقعا ونهاية مغايرة تماما لو أنه أنجز تعليمه الجامعي ونال من خلاله تلك البطاقة السحرية التي تؤهله للعبور من واقع قهري إلى آخر أقل قهرا واحتكارا؟ لكن السؤال المقابل هو: إلى أي مدى ما زلنا نغالي في اعتبار الشهادة الجامعية شرطا مفتاحياً للدخول في سنوات منتصف العشرين كما ينبغي، خاصة وأننا نعيش في وقت تتشعب فيه الطرق المختصرة نحو الصدارة المادية والاجتماعية وحتى الفنية؟

نتحدث اليوم عن ذلك القلق الصاعد من تطور شروط الحياة العلمية والعملية التي بات يعسر معها تأسيس حياة مستقرة وطبيعية ضمن السياق الاجتماعي العام دون تعليق شهادة جامعية على جدار البيت. القلق يتصاعد أيضا من واقع أن هذه الشروط تزداد صرامة مع تقدم الأجيال إلى الحد الذي تصبح فيه الشهادة الجامعية مطلبا بديهيا، لا امتيازا يمكننا أن نراهن عليه كثيرا من أجل مستقبل بعيد المدى كما كان اللاجئ الفلسطيني يراهن ويحلم في الملحمة الدرامية لوليد سيف وحاتم علي. ففكرة أن تصبح الشهادة الجامعية بديهية إلى هذا الحد قد تعطي مؤشرات ذات أوجه إيجابية متعددة؛ من بينها ترقي المستوى التعليمي العام لدى الشريحة الأعرض من المجتمع الذي ننتمي إليه بعد أن كانت شهادة الثانوية العامة لدى أجيال سبعينيات وثمانينات القرن الماضي (أتحدث عن الحالة العمانية تحديدا) هي معيار الامتياز العلمي الذي يمنح الشاب فرصة قبول جيدة في سوق العمل، حيث تمثل تلك الشهادة وعدا مطمئنا بمستقبل معيشي ميسر يعبر منه بالتالي إلى حقوقه العرفية والاجتماعية العادية كالزواج وتكوين الأسرة. لكن تأملي المستمر للمسار التصاعدي الصارم لمتطلبات سوق العمل من جهة، وللتوقعات الاجتماعية من الفرد وهي تزداد تعقيدا من جهة أخرى، يفضي بي إلى الشعور بمزيد من الخوف والإرهاق القادم من نمط المستقبل المتخيل، المتجاذب بين سوق الصنعة والمهارة وسوق الشهادة والاعتراف الأكاديمي.

سالم الرحبي شاعر وكاتب