تداعيات «الكيباة»

16 يناير 2022
16 يناير 2022

لا أعرف الشاب الذي بدا لي في أواخر العشرينيات من العمر، وكان يعتمر الكيباة أو الكِبة للصلاة، يهوديا خالصا لليهودية أم يهودي صهيوني! (على خاطر الجدل الحاصل للتفريق بين المعنيين اليهودي والصهيوني)، لكنني رأيته يقف خلف الأريكة يستعد للصلاة، وعلى الأريكة نفسها، كانت تجلس فتاة نحيفة عشرينية مثله. كانت ترتدي تنورة رمادية وقميصا أبيض، كما تعتمر مثله قبعة لكنها من نوع دائري وتغطي شعرها القصير كله، ولا تشير قبعتها إلى أيقونة محددة للصلاة، إنها من نوع القبعات ذات القمة المستديرة.

بعدما، أنهى الشاب صلاته، وكنت أراقبه عن كثب، أتنقل ببصري بين طاولة الفتاة والأريكة وطاولتي التي أكتب عليها هذه السطور، فجأة هَوى فوق رأسي سيل من الأسئلة الغريبة والأفكار البعيدة: هل يمكن أن تكون الفتاة قاتلة؟ وإذا كانت كذلك، فكيف لعشرينية جميلة مثلها أن تقتل إنسانا ما طفلا أو رجلا أو شابا أو فتاة في مثل عمرها؟ لا، ليست قاتلة، لكنها ربما متدربة في جيش الموساد أو جهاز المخابرات الأمريكية، بعثها اليهود إلى هنا لتراقب وتنقل المعلومات. ما أدراني أنها ليست قاتلة، وعقيدة اليهود في كلّ مكان هي القتل؛ أقتل لتسود!

في مطعم Sarayisimit بمطار صبيحة وإطلالته الضيقة على بهو صالة الجوازات ومكتب شباك تذاكر طيران Pegasus ومكتبين آخريين تجاريين على أحدهما كتبت عبارة (We can help you) وركن آخر مخصص لمراقبة المسافرين والتدقيق على حاملي نتائج فحص كوفيد 19، ويقابل هذه العناصر السوق الحرة المتواضعة. في ذلك المطعم، كان الشاب اليهودي يصلي حاملا بيديه الكتاب المقدس. وبينما ظلت فتاته العشرينية جالسة تقرأ هي الأخرى في كتاب ما، لم أستطع أن أتبين عنوانه، كانت الأفكار الغريبة تتقاذف بي كأمواج البحر (تذكرت الأمواج وهي تقذف بـ«ويلسون» رفيق الممثل توم هانكس في فيلمه الرائع Cast Away!) وكنت كلما غصت في الأفكار والأسئلة، يساورني القلق أن العالم سوف ينتهي في تلك اللحظة، أو أن الزمن سوف يتوقف، أو أنني لن أكون قادرة على كتابة مسرحية ما، أو الرجوع إلى الوطن بنفسية متصالحة مع أخطاء السفر وعثرات اللغة! وعلى الرغم من تلك المخاوف والأوهام ظللت أسرق النظر خلسة إلى هذا الشاب الجميل ثم إلى تلك الفتاة.

جرى فعل المراقبة أثناء تناولي لوجبة مكونة من صحن سلطة خضراء بالجبنة البيضاء ورغيف خبز تقليدي يُعرف بالرامزان Ramazan وزجاجة عصير فواكه مشكلة. برز هذا السؤال: كيف يفكر هؤلاء اليهود؟ وسيكون السؤال ذاته الذي يُمكن أن يُصيغه الآخرون إزاء آخرين من مكان أو طائفة ما، - السؤال عن الآخر الذي يحمل في داخله قدرة الإنسان إما على الانفتاح أو الانغلاق- وحسب تقديري أنه لولا الكيباة وصلاته وتضرعه وخشوعه وكتابه المقدس لما اهتممت بهما، إذّ (يِسدني إللي كنتُ فيه)، ولمَ احتلني ذلك التفكير في لحظتي تلك.

إطالة نظري إلى الشاب والفتاة التي برفقته وعلى الأرجح أنهما زوجان من منظر خاتم أصبعي الزواج، أهال على ذاكرتي برغم الإجهاد والتعب الشديدين سيناريوهات كثيرة إلى جانب الأسئلة والأفكار السابقة.

هل تتذكرون ماذا حدث في اليوم الحادي والعشرين من أبريل 1948م؟ حسنًا لنعد إلى رواية الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني (عائد إلى حيفا). بالاستناد إلى محرك البحث جوجل فإنّ الرواية قُدمت كفيلم مَثل فيه (حنان الحاج علي، بول مطر، كرستينا شورن، منذر حلمي، سليم موسى، جمال سليمان، والطفل بشار خليل وآخرون)، وكَتب الحوار باللهجة الفلسطينية رشاد أبو شاور، وبالإنجليزية سعاد أحمد وبالألمانية Heike Awad، كما جرى تحويل الرواية إلى أعمال فنية كثيرة تلفزيونية ومسرحية.

في الرواية ذات الحجم الصغير (79) صفحة، يأتي الماضي المرعب فجأة حادًا مثل سكين في ذاكرة السارد؛ فالطفل خلدون تتركه أمه ابن خمسة أشهر في حيفا والقنابل تدكها في صبيحة 1948م، وبعد عشرين عامًا من العذاب الكبير تعود أسرة خلدون إلى البيت الذي تركوه هروبا من القصف ليجدوا عائلة بولونية يهودية تستوطنه. صار اسم خلدون في ١٩٦٧م (دوف)، وبعدما صار شابا يافعا شغل وظيفة مجند في جيش الاحتلال الإسرائيلي كانت الصدمة عنيفة للزوجين فبعد عودتهما إلى بيتهما وتعرّف ابنهما (دوف) على الحقيقة الغائبة وأنه ليس ابنا للعائلة الإسرائيلية، أصرّ على اختيار البقاء مع أمه اليهودية، التي ربته ولم يعرف أمًّا سواها... إلخ.

للوهلة الأولى خيل إليَّ أن ذلك الشاب اليهودي والجالس وزوجه في مطعم Sarayisimit هما أحفاد (دوف) وأنهما امتداد لسلسلة متصلة لجذور الأم البولندية؟ لا أعرف بعدما احتلت هذه الفكرة الدرامية جميع حواسي، واستقرت حيث يراد لها أن تستقر على نحو من الأنحاء، أن شعرتُ بارتياح وهدوء، وأخذت أكرر في نفسي، نعم هما أحفاد (دوف) الشاب المجنّد في الجيش الإسرائيلي، وأنا اليوم ألتقي بهما في هذا المطار، وأستعيد من منظرهما غسان كنفاني، وعائد إلى حيفا، والجوانب الساخرة في حياتنا، والجفاف القادم المتربص بنا على نواحي الحياة المختلفة.

ها هي ذي الزوجة، بعدما أنهى الزوج صلاته، تذهب إلى طاولة الدفع لتحاسب النادلة التركية التي كانت توزع ابتسامتها الجميلة على الجميع، بينما ظل هو متكئ على طرف الأريكة، تارة يوجه رأسه إلى حيث طاولتي، وتارة يتفقّد المكان وينظر في الجالسين. وحينما عادت وعلى وجهها علامات اندهاش، لا أدري حقيقة مصدر دهشتها، أكان سببها عدم ارتياح عن السعر في مقابل الطعام، أو أسباب أخرى، لكنها بمجرد وصوله إلى الأريكة، راقبتها تُكلمه، وبدوره كلمها بسرعة وهو ينتهي من سماع إعلان موعد طائرتهما. قاما ولبست معطفها بينما ارتدى هو الجاكيت الطويل، واعتمر الكيباة، وتناولا حقائبهما واتجها مسرعين إلى حيث الدرج الآلي المؤدي من الجهة اليمنى إلى بوابات الصعود إلى الطائرة.

خُيل إليّ بعد اختفائهما، أننا كنا ثلاث شخصيات، أنا والزوج والزوجة، بالضبط كما كان قبل أربعة وخمسين عامًا، يجلس ثلاثة هم سعيد وصفية وميريام العجوز في صالون منزلهم، وأن كلامًا أو نقاشًا أو حوارًا متخيلًا يمكن أن يجري بيننا، كتتمة لاحتلال لم ينته بعد، ولأراضي تُسرق، وبيوت تُهدم واغتيالات مستمرة، وتهجير منظّم، ولأجيال مطحونة طحنتها الشعارات والاقتتال على السلطة والثروة. لعلّ الفارق بين روايتي عن المشهد ورواية سارد عائد إلى حيفا، أنني كنت سأقول للشاب اليهودي بعد أن وضع «الطليت» الموشي بخطوط زرقاء فوق كتفيه: أنا أعرف أنكما امتداد لدوف وميريام وإفرات، أنكما من العائلة نفسها، وكما تريان، لم نستطع أن نتحدث عن المستقبل؟ لا أحد استطاع ذلك!

آمنة الربيع كاتبة مسرحية عمانية وباحثة

في الأدب والنقد.