تداعيات الحرب الإسرائيلية
أظن بأننا ومنذ حوالي ثمانية أشهر قد تجاوزنا بالفعل، ما حدث فـي النكبة والنكسة لنا كعرب. هذان الحدثان اللذان يمثلان نقطة ارتكاز للتحولات التي عايشتها المنطقة، قد مثّلا نقطة تاريخية نحن جزء منها اليوم لتتجاوزها. مع أنني لا أميل لفصل كل هذه الأحداث المدوية والمحورية عن بعضها بعضًا، وأدعو دومًا للتفكير فـي الإبادة الجماعية فـي غزة كامتداد للنكبة فـي 1948 وكأن الزمن لم يكن يومًا غير هذا التطاول فـي حدث واحد جوهري. وأفكّر برفاهية فـي الوقت الذي لا نمتلك فـيه هذا الامتياز فـي التسمية التي سنطلقها على ما يحدث منذ عام الآن، وصولًا لهذه الأيام التي يقصف فـيها كيان الاحتلال الإسرائيلي فلسطين وسوريا ولبنان واليمن والعراق فـي الوقت نفسه. وكيف يمكن أن نصف تصفـية أمين عام حزب الله، الشخصية الرمزية لا بالنسبة للشيعة فـي المنطقة، بل للكثيرين حتى أولئك الذين يختلفون مع حزب الله عقديًّا وأيديولوجيًّا، فـي اعتباره المنفذ الوحيد الذي يقف كالشوكة فـي حلق إسرائيل والإمبريالية الغربية بكل تطبيقاتها.
ما يثير الفزع على نحو خاص، العنف الذي اتخذته إسرائيل من أجل تصفـية أمين عام الحزب. الذي لم يلقَ التفاعل نفسه الذي تسبّب به الاستقطاب حول شخصية الأمين العام للحزب. ما يثير الاهتمام حقًا حول أهمية المدنيين فـي سردية كلا الطرفـين أولئك الذين يرون تحولًا فـي موقف الحزب بعد 2006 وخيار الحزب التدخل فـي سوريا ومثقفـي الممانعة ممن يرون أن ما حدث فـي سوريا كان محاولة غربية وإسرائيلية ينبغي مواجهتها وأن ما قيل عن الجرائم التي ارتكبها الحزب ليس سوى تلفـيق حملة إعلامية ضخمة ضده. يمكن أن نعزو تجاهل ذلك الدمار الهائل يوم تنفـيذ العملية بطبيعة الحال إلى الأهمية الرمزية التي يمثلها أمين عام الحزب، أهمية جعلت هذا الطرف من محور المقاومة الأهم منذ ثلاثين عامًا.
تابعتُ هذا السجال خلال الأيام الماضية، ويبدو أن هنالك سرديات بعينها تصبح شيئًا فشيئًا هي السائدة فـي المشهد العربي. تنطلق التحليلات جلها من أن حزب الله جسم عسكري موضوع بالضرورة لتعطيل مشروع الدولة مثل أي جماعات ممثلة ترتبط بإيران. تتجاهل هذه السردية رغم مشروعية نقاشها الظروف التي نشأت فـيها هذه الجماعات المسلحة، وتجاهل أي اعتبار أيديولوجي يدفع الجماعة للتضحية بالنفس والإيمان بقيم الجماعة. كأن كل الجماعات ما وجدت إلا لتحقيق مصلحة مادية معقلنة، أو جاءت وفقًا لشروط وجودية غير قهرية ولا قاسية. أليس هذا تفكيرًا مؤامراتيًّا أيضًا؟ تدّعي النخب أنها لا تسقط فـيه، عندما تكتفـي بالتلويح بتشابه رد الفعل من أمين حزب الله وصدام حسين مثلًا، وآخرين ممن تبنّوا القضية الفلسطينية إلا لتسويغ استبدادهم وتعنّتهم على المستوى الداخلي.
يهمني فـي هذا السياق الإشارة لهذه المنهجية فـي التعامل مع كل الحركات التحررية فـي تاريخ العالم العربي الحديث، والتي قرنت على الدوام بتحقيق مصالح اقتصادية وبراغماتية، منذ الأربعينيات وحتى الآن؛ فالحركات التي نشأت ضد الاستعمار الأجنبي، كانت تتوق للحصول على حصتها من عوائد النفط وامتيازات التنقيب عنه، وما المطالبة بإنهاء الاستعمار سوى غطاء تربض أسفله هذه الرغبة فحسب. لطالما أنكرنا على أنفسنا كعرب ربما بسبب الاستبداد وجود أسباب وجودية وقضايا إيمان كبرى دفعتنا لتشكيل هذه الحركات والدفاع عن وجودها واستمراريتها. هذا منذ التاريخ وصولًا لحركة حماس نفسها، التي يراجع الغرب نفسه اليوم فـي وصفها بالإرهاب، والنظر إليها كحركة تحرر وطني.
تبقّت هنالك أسئلة لا يطولها الواقع الذي يرزح تحته العالم العربي، من فقدان للسيادة، ورضوخ لأشكال الاستعمار الجديدة، التي وضح لنا كيف أننا نقع على مسافة بعيدة منها بالصدمة التي شكلتها لنا الإبادة الجماعية بعد السابع من أكتوبر على غزة والفلسطينيين فـي عموم فلسطين. تتبنّى العديد من التيارات اليسارية موقفًا يعتمد على خلق خيارات جديدة، وأننا مسؤولون عن ذلك.
لكن هل يمكننا فـي ظل الشروط التي يصنعها هذا الواقع الذي أشرت إليه أعلاه فـي التفكير واتخاذ هذه الخيارات؟ بمعنى آخر هل تبدو لنا الخيارات الأخرى، غير الجماعات المسلحة والدينية محض رفاهية؟ أعتقد بأن هذه النظرة قاصرة عن الأسباب التي حدث فـيها هذا النكوص إلى الإسلام السياسي، خصوصًا بعد النكسة فـي الستينيات. وفشل القومية العربية فـي إيجاد طريقة لمواجهة الصراع القومي مع إسرائيل. هذا بالإضافة للاستقطاب السعودي الإيراني الذي أثّر على المنطقة وعلى الخطابات الدينية فـيها. فلحظة ١٩٧٩ عام الثورة الإيرانية تشكّل حدثًا مفصليًّا تصبح النتائج بعده غير تلك التي كانت قبل أن يصل الحكام الجدد لإيران إلى سدة الحكم.
ما أرغب فـي قوله فـي مقالي هذا، أننا وفـي ظل التشنج نفقد القدرة على الحوار، ويزيد الانقسام بيننا، فـي الوقت الذي نحن أحوج فـيه من أي وقت سابق للتفكير فـي مصيرنا المشترك كعرب، هذا المصير الذي يُختلف حتى فـي تقاطعه بين دول المنطقة.