تحت أنقاض الخوف
هل يمكن لذلك المسمى الخوف أن يتضاءل في حياتك بتقمصك له بعضا من الوقت، وأنت بكامل وعيك وإرادتك تختار من بين أرفف المكتبة كتابا يرعبك ويحفز الأدرينالين في جسدك؟ كونه حاجة فطرية في التكوين البيولوجي في الإنسان، لتصدق بذلك المقولة التي تؤمن بأن أفضل طريقة للتغلب على الخوف هي مواجهته.
في أعجوبة الكاتب "توفيق الشحي"، وكتابه الصادر عن كنوز المعرفة " الذي يصنع الخوف"، يقدم لك نمطا متفردا لقصص الرعب، وكأنه يقدم لك درسا في مواجهة الخوف، أو لإخافة الخوف نفسه، والذي يفسر التساؤل المطروح جدلا "لماذا نقرأ أدب الرعب"؟، ذلك الرعب الذي لا يكاد أي منا قد نجا منه سواء من حكايات الجدات القديمة، وبقصص الأصدقاء المستندة على تاريخ أدبي من الأساطير ذات الجذور الممتدة، أو كتب الرعب الكلاسيكية أو حتى قلّ أن ينجو من تلك المخاوف الصغيرة التي يحملها في قلبه، أو ما يسمى بالفوبيا، سواء كان من الظلام أو الأماكن المرتفعة أو الرهاب الاجتماعي، وغيرها من المخاوف، التي ما هي في أغلبها إلا وهم محض، وما هو سوى صورة ذهنية متخيلة، فكما يقول الكاتب لوفكرافت " الخوف هو أقوى واقدم عاطفة عرفها الإنسان، وأقدم شكل من هذا الخوف هو الخوف من المجهول".
يقدم لنا الكاتب في كتابه عددا من القصص، التي تخلو من المشاهد المرعبة والدموية والشيطانية، وتكاد تتجرد من ثيمة الرعب، المرتبطة بالجماجم والتعاويذ والسحرة، فهو يقدم الرعب كحرفة يتقنها كاتب أدب الرعب، يعكف على صناعة الخوف في داخلك رويدا، بحيث لا يشبه ذلك الخوف الذي يغيّب كل شيء من حولنا، فهذا الخوف لا يدفعك إلى الفرار ولا يوقفك عن التفكير، بل على العكس تماما، فهو يحفزك على التفكير في إمكانية معالجة الأمر بفهمه أولا، وذلك عبر العودة بحذر إلى الأحداث السابقة وكما يقال "إفراط التوقّي أول موارد الخوف".
ولإنعاش ذلك الخوف النائم في سباته، بحيث تتنامى أحداث تلك القصص على نحو يجعلك حذرا من تلك المفاجأة المرعبة، التي تتربص بك من بين الأسطر، فتتنصل منك بعض الأحداث، وتتوارى أخرى، رغم أنه لا مكان للترميز في القصة، لتظهر لك بعضها كحدث ثائر بين السطور، وليكون عنصر المفاجأة صورة من صور الرعب والخوف، ولتنظم بذلك ضمن قائمة الأشياء المرعبة، عبر إثارتها للعصب السمبثاوي.
حتى تنتهي بك إلى دهشة لا تكاد تكون استوعبتها إلا عبر عودته بضع خطوات للخلف، ولعدة صفحات سابقة، لتربط بين الأحداث محاولا حل الأحجية، ولتعود أدراجك باحثا عن الرابط الخفي المشفر بين الأحداث، وبارتداد رجعي لأحداث سابقة، وبانتقال من القراءة الكلية للنص إلى النبش ما بين التفاصيل الصغيرة، لتعرف أن هناك بين الأسطر خدعة ما، حيث إن الكاتب تلاعب ببعض الأحداث.
ليستفيق التساؤل مجددا هل قصص الرعب تعالج ذلك الخوف الصغير المتنامي في داخلنا قبل أن تكون له هيمنته، أم أنه يزرع فينا خوفا آخر، ووحدهم قراء هذا اللون من الأدب الجماهيري يعرفون الإجابة جيدا، ووحدهم يعرفون من مروا بتجربة مواجهة الخوف لقتله، بدل الهرب منه ليتعاظم في القلب والعقل، لتتجلى الشجاعة تحت انقاض الخوف، حيث إن الثورة ضد الخوف هو ما سيحررك منه، وكما يقول إميل سيوران "أما الذي انتصر على الخوف يستطيع أن تعتبر نفسه خالدا".
قصص تمتزج فيها الدهشة بالغموض مع بانورامية صياغة الأحداث وفق رؤية خاصة، وتسير بصوت أحادي، وفي تماثل بنيوي وعبر متتاليات سردية ونزوع نحو صناعة الخوف، خطط لها المؤلف مسبقا، ليثبت حرفية في تحقق العنوان وفق فلسفة قدم فيها الخوف، على نحو يزرع فيك تقنية نفسية عميقة للتخلص منه، وذلك عبر مواجهته، وها هو ذا وضع خوفا بداخلك.
لنبدأ بقصة "الذي يصنع الخوف"، ففي أحد البرامج الإذاعية، تمت صناعة الخوف باحترافية تامة، فكما يقول الكاتب: "ما الفرق بين أن تتكلم عن الخوف وأن تصنعه"، فهو كما يقول "الأفكار هي التي تأتي، أنا لا استدعيها"، فيجري فيها المذيع حوارا مع أحد كتاب الرعب ليحدثه عن مهمته " هذه مهمة الكاتب، أن يوحي لك بوجود شيء ما خلف الستار" ليطول الحديث حول قصص من تراثيات أدب الرعب، وعن الأشباح ودراكولا وغيرها من الأساطير ليقول" نحن نعيد الحياة لقصص ماتت منذ عقود"، و "دعنا نرى الرعب بشكل آخر".
هل يمكن"، هل يمكن أن تكون الأحداث الغريبة التي تحدث اليوم لها تناص مع جذور ممتدة من أسطورة قديمة معمرة؟، حتى أصبحت خالدة تسمعها الأجيال عبر رسائل مشفرة لطرقات الخشب، الذي تحول من كونه سيقان للأشجار إلى أثاث للمنزل، كل هذا وانت تتساءل" منذ متى والأشباح تسكن منزلي!".
أما قصة " لوحة" ، وبعدما كنا " بالأمس كنت أحبكم وتحبونني فما الذي جرى"، فتلك العائلة في اللوحة تشبه عائلتي، " فلماذا نحمل السلاح ضد بعضنا البعض"، أعرفكم جيدا لكن هناك من أمرني لإبادتكم.. مهلا.." ترى كيف أدرك الجندي أن اسمي هو نوح".
كل شيء بدا رماديا في قصة "رمادي"، حتى بات فهمك للأحداث رماديا، ويأخذك في رحلة تقمص شعوري للون، "حتى صوت الكرة في العبوة التي كانت يارا ترجّها بدى رماديا في أذنه"، وهو الآن مع ابنته يارا لإثبات أهليتها لتكون كباقي البشر وفي محاولة مستميتة منه في عالم " يستقبله بدبلوماسية مدروسة احترفها مع الزمن"، ليهز السؤال رأسه " قسمات لا يمكن أن تقر منها حرفا"، " ماذا نصنع بالفحص الجيني"، لكنه القدر ما جعل اللون الرمادي قاتما هذه المرة، أم ذلك القدر الذي صنعه الغير لنا، ليحول العار إلى الغاز الكاتم، الذي ينهي حياتك خلال بضع دقائق.
وفي "قضية البريد الإلكتروني، هناك من يعبث برسائل البريد لاحدهم ويرسل "برسائل لها طعم غريب"، وبحال يشبه التخاطر "هناك رسائل غامضة في بريدي الإلكتروني، رسائل توحي بجريمة قديمة"، فهل يعقل أن يكون تسجيل اسم المستخدم باسم العائلة (بيمون) له علاقة بالجن والأرواح؟ ، "انه اسم الملك المطيع للشيطان".
و"ذاب الربيع"، مع انتهاء سنين العمر، ليثار الغموض هذه المرة حول ذلك القدر.