بين ستيفان تسفايغ وغسَّان كنفاني: "عالم الأمس" و "عالمٌ ليس لنا"
لا شك أنه في الذاكرة الأدبية الراهنة للقرن المنصرم، كان لهرمن هيسه أسبابه الموضوعية الوجيهة خارج أعراف التواضع البروتوكولي، المعهود، والدماثة الإتيكيتية. المتوقعة، والأخلاق الرفيعة الشكلية في الاقتضاء السلوكي الذي لا مناص منه وإن يكن ببعض ارتباك لا يحب الكتاب الكبار عادة أن يكونوا في خضمه، وذلك في إطار المناسبة المهيبة التي جعلته يقول في ذلك المساء الجليل أمام الملأ في حفل تسلمه جائزة نوبل للآداب: "إن الشخص الذي كان ينبغي أن يكون أمامكم الليلة هو ستيفان تسفايغ، وليس أنا"..
وحقاً لم يبالغ هيسه كثيرا، وليس من القمين بنا نعته بالتصنع، والتكلف، والممازحة المقيتة الضارة؛ فقد كان تسفايغ (ولا يزال، وسيبقى) من الفلتات العبقرية النادرة والفريدة في تاريخ الكتابة بوصفه روائيا غائراً، ودارساً قلقاً للفلسفة، ومترجماً حاذقاً، وصحفياً أسلوبياً، ومؤلفاً مسرحياً بحس أوبيرالي وموسيقي، وكاتب دراسات متعمقة تتجاوز كونها سيرا غيرية بالمعنى المألوف (بمعنى انها تتجاوز ذلك التصنيف الكتابي بالمعنى التقني والميكانيكي الضيق فحسب) وذلك في سبر لأغوار واضاءة تأثيرات بعض مـن المع رموز الإبداع الغربي التي تعلق بها (تشارلز دیکنز، وفيدور دوستويفسكي، وأونري دو بلزاك، وليو تولستوي، وغيرهم). لكن قبل هذا، وأثناءه، وبعـده سأقترح أن أفضل تعريف لتسفايغ في اعتقادي هو: الإنسان الذي أخلص لنفسه، ورؤاه، وكتابته، وحياته، وأحلامه وإحباطاته، وموته، أو كما يقـول هـو نفسه في رسالة انتحاره: "من الأفضل في اعتقادي أن أختم في الوقت المناسب وأنا منتصب القامة"، خاصة وإني، على صعيد شخصي محض، أكن أيما تقدير وإعجاب بالكتاب والمبدعين (بل وحتى لفصيل معين من الناس الذين نسميهم زورا وبهتاناً عاديين) الذين يرحلون اختياراً، كل لأسبابه، واعتباراته، ومآزقه، واستحالاته. في هذا الإطار، إذا، كان من نصيبي الوافر أن أحظى بقراءة سيرة تسفايغ الذاتية الخصبة والفاتنة المعنونة "عالم الأمس". سأقول فوراً ومـن دون أدنى تـردد أو إبطاء إنهـا مـن أمـتـع وأغنى السير الذاتية التي قرأتها فيما كان لي حظ من قراءته حتى الآن: سيرة تأملية لماحة: عميقة، شاهدة على عصـر كـامـل مـن أحـلام الصعود الطموح وكوارث الانهيارات المريعة، تنتقل برشاقة وبراعة (وخشونة ضرورية أحياناً) مثل الريشة الثقيلة لأحد أسلافنا من فنـانـي مـا قـبـل الخروج من الغابة، وذلك عبر محطات غزيرة من المعارف، والإبداعات، والثقافات، والتعبيرات، والأحداث، والمدن، والتعارفات، والالتقاءات الشخصية المباشرة، والتراسلات مع العديد من الرموز العظيمة للعصر الذي عاش فيه تسفايغ (راينر ماريا ریلکه، ومكسيم غوركي، وسيغموند فرويد، وغيرهم). أما الآن، وقد قلت ما قلت، فإن ما يهمني هنا، ويصورة غائرة للغاية، هو أن تسفايغ يموضع هويته منذ الصفحة الأولى في سفره الثري، وبما يروق له، على أساس انه (وأنا هنا أقتبسه بالحرف الواحد): "نمساوي، ويهودي، وكاتب، ومؤمن بالحركة الإنسانية، ونصير للسلم". والحقيقة أن هذا كلام تنبغي الإشادة به على أساس انه انتماء للهوية والذات وتجذير لهما معاً في مسعى خير الإنسانية والعالم (أو الاستياء منه الخذلان من العالم) عبر تنبير الفردانية، ولهذا فإن هوية الكاتب العلنية المعلنة تلك تجيز لقارئ مثلي، وبما يروق له بالمقابل (وأيضـاً مـن جهـة مساعي الخير تجاه الخير بخصوص الإنسانية ومشاعر الخذلان إزاء العالم) أن يموضع هويته الثقافية والحضارية في تعالقاتها مع انتمائه للإنسانية على النحو التالي: عماني، عربي ومسلم، وكاتب، ومؤمن بالحركة الإنسانية، ونصير للسلم". ويا الله، كم أخشى انه هنا وبالضبط ستبدأ المشاكل. تبدأ المعضلات حين يتضح ان السطور (وما بينها بمقاديـر قـد تكون أكثر وفرة) في عالم الأمس، بالنسبة لتسفايغ هو "عالم" أوروبا المجيد، والمثالي"، وليس العالم، الذي يضمنـي أنـا ومـن هـم علـى شـاكلتي من البشر الآخرين، كالذين يقطنون مجز الصغرى مثلاً؛ فتسفايغ لا يستطيع أبداً (وأنا لا أستطيع في هذا أن أصفح عنـه علـى الإطلاق) إلا أن يكون أسيراً مقيداً بنظرة مركزية (عنصرية؟) كلاسيكية لا ترى في مفهوم الإنسان، إلا الرجل الأبيض فقط، وثقافة الرجل الأبيض فقط، وإنجازات الرجل الأبيض فقط، واحتمالات ومآلات الرجل الأبيض فقط؛ وبذلك فإن العالم، الذي يقصده (ويتقصد منه) تسفايغ ليس إلا أوروبا التي يختزل كامل البشرية في أيقونيتها البيضاء". يتفجع تسفايغ (محقاً، وإن يك بصورة طهرانية تقريباً ومفرطة الحنينية بصـورة تكاد أن تكون مائعة العاطفية لكنها لا ينبغي أن تكون مستغربة على مبدع رقيق الوجدان ومرهف الحس مثله) على "عالم الأمس، (أي، بصريح العبارة، أوروبا التي ما عادت في مثلها وقيمها كما كانت في بريقهـا يـوم الأمس"، والتي يتغافل -- أي السيد تسفايغ -- تماماً عن انها كانت تستعمر وتسعتبد حوالي 90 % من العالم، الذي أنتمي إليه أنا -- قارنه وتعمل فيه كافة أصناف البطش، والعسف، والإرهاب، وكل ضـروب الاستغلال، والاضطهاد، والامتهان: إنه ذلك العالم، الذي لا يستحق رفـة مـن عين تسفايغ ولو في صفحة واحدة)، وفي الحقيقة ان السطور القليلة التي كتبها عن زيارته للهند، مثلا، وبدافع اعتذاري تقريبا، تصيب المرء بالنفور أكثر مما تدعوه إلى الفضول إزاء تلك الثقافة العريقة. يرثي تسفايغ موجوعاً مكلوماً والعالم الذي انهار بسبب حربين عالميتين تسببت بهما في الحقيقة التي يغض النظر عنها -- مركزية العرقية الأوروبية ودفع الجميع ثمناً لذلك (وكم أخشى ان السيد تسفايغ لا يعلم ان الطوربيدات الألمانية قد وصلت حتى إلى مياه خليج عمان فأغرقت باخرة بريطانية في صراع لم يكن لأهلي ضامري الصدور ومدفعي الفقر والضنى هنا ناقـة لـهـم فيهـا ولا جمل). وباعتباره "كاتباً نمساوياً يهودياً، (في تعريفه لنفسه بنفسه كما أسلفت)، وفي ظل صعود معاداة السامية في أوروبا التي ينـوح على أمسها، فقد عاني تسفايغ وقومه من صنوف القهر والعسف المقيتة التي نقف جميعاً ضدها بالمطلق، والتي كانت من دوافعه الى الانتحار النبيل في نهاية المطاف؛ غير ان القارئ باعتباره " عمانياً، عربياً ومسلماً، وكاتباً، ومؤمنا بالحركة الإنسانية، ونصيرا للسم) لا يستطيع ان يتغافل عن حقيقة أن تسفايغ ("وجودياً" و"إنسانياً" كان ما كان) كان صديقاً مقرباً لثيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، كما كان متحمسا لأنشطة تلك الحركة في أعقاب الحرب العالمية الأولى. لقد نشرت مذكرات تسفايغ للمرة الأولى في 1947، أي قبل عام واحـد فـقـط مـن تأسيس الدولة الصهيونية على أرض فلسطين، وقتل، وتعذيب، وتشريد أهلها، والتنكيل بهم بعقلية ومنهجية أسوأ مـن نازية لغاية اليوم. ولذلك فإننا حين نتساءل: ترى، أي "عالم، هذا الذي يتحدث عنه السيد تسفايغ في "عالم الأمس" ؟، فإننا قد نجد الجواب عند غسان كنفاني كاتباً، وشاهداً، وشهيدا: "عالم ليس لنا".