بيروت... سوف أدخلها حينما يخرجون

28 سبتمبر 2024
28 سبتمبر 2024

توقعتُ أن أكونَ هناك مطلعَ نوفمبرَ الآتي. قطعتُ تذكرة إلى بيروت وانتظرتُ في مسقط موعدَ الرحلة المزمعة بعد شهرين من اليوم بالضبط. أخيرا سأدخل المدينةَ، قلتُ، كما دخلوها أول مرة، شاعرا أدخلها كالشعراء الداخلين إليها من قبلي بحثا عن ملامح أصواتهم في مرايا الحداثة... لكن آمالي تحطَّمت حين ورَدتْ رسالة عبر البريد الإلكتروني من شركة الطيران تفيدني بأن الرحلة إلى بيروت قد أُلغيت، وأن السفر إلى لبنان غيرُ وارد في ظل الهجمة الإسرائيلية المرتقبة.

السؤال: هل يحق للإسرائيليين أن يمنعوني من السفر؟! في الواقع هي هذه المرةُ الثانية التي يمنعني فيها الإسرائيليون من السفر، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، لا يهم. المرة الأولى عندما كنت طالبا في الجامعة؛ حين تلقَّيتُ دعوة لزيارة رام الله للمشاركة في الذكرى السنوية لرحيل ياسر عرفات. لكن التصريح الأمني الذي لا يمرُّ إلا بختمِهم لم يصدر، وكان علي الانتظار لأسباب لم أعرفها، حتى انقضى موعد المناسبة. وإلى اليوم، لم أغفر للإسرائيليين الذين منعوني من الدخول إلى فلسطين، وها همُ يمنعونني اليوم مجددا من الدخول إلى لبنان•...• لن أغفر لهم حرماني من حقي الطبيعي في السفر! سوف أدخلها حينما يخرجون. ولكن من أنا لأدخل المدينة كما يدخلها الشعراء؟ من هم الشعراء في الحرب؟ ومن هو الشاعر فينا، في الحرب، وماذا يفعل بأدواته؟ أريد الذهاب إلى بيروت سائحا فحسب، فليخرجوا من سمائها لأدخل تحت جناحها سائحا من هواة «السياحة القومية» أو شيء من هذا القبيل. أريد الذهاب إلى بيروت لأتحققَ فيها من كلام شاعر/ لاجئ فلسطيني مر بها ذات يوم وقال: «أحاول أن أفهم بيروت فأزداد جهلا بنفسي»... كم أتمنى لو أزداد جهلا بنفسي لصالح الاقتراب أكثر من بيروت. لكنهم يقصفون، يشتد القصف ويتأخر الوقت. بين القصف والوصف تتلألأ بيروت وتعتم في ليل بلا كهرباء. أكثرُ مدينة عربية في تاريخنا المعاصر بقيت مفتوحة للقصف المسلَّح وللوصف الأدبي هي بيروت؛ لم تستفق من هدنة إلا لتواصل الحرب، وما مرَّ شاعر منها إلا وعلَّقها في عِبارة.

لطالما كان انهيار الدولة يعني انهيار المدينة بالضرورة، غير أن بيروت أصرَّت على التشبث بالمفارقة الساحرة الساخرة حتى سنواتها الأخيرة، ففي زمن الانهيار العام للدولة والمدينة في المشرق العربي، كانت بيروت تقاوم لتبقى مدينة حية في دولة منهارة. لكنني أفكر: ماذا تبقى لشاعر من جيلي في بيروت؟ ظلال الحداثة في بلدٍ يتوعَّده العدوُّ النووي بإعادته إلى ما قبل تاريخ الكتابة؟ فليخرجوا من سمائها لنرى ماذا سيبقى من بيروت في بيروت عمَّا قليل.

في المدن الصغيرة، مثل بيروت، يمكن للزائر أن يصادف نفسه مرارا، وأن يدوس في الأرصفة على خطاه القديمة، ففيها تصبح احتمالات التقاطع واللقاء بين الزائر ومجملِ تفاصيل المكان أكثر كثافة، مقارنة بالسياحة في المدن الكبيرة الواسعة حيث يُضيِّع الغريب نفسه.

سألتُ سيدة عمانية أعرف أنها ترددتْ على زيارة لبنان منذ طفولتها مرات عِدة: بالله عليك، كيف تحتملينَ أن تَري على شاشة الأخبار مشاهدَ القصف الإسرائيلي المصبوب على القُرى والتلال الجنوبية، حيث تجوَّلتِ في صباك قبل نحو عشرين سنة، وحيث التقطتِ الصور التذكارية، مع العائلة، وسط معالِم صمود تلك القرى وفي غمرة أجواء تحريرها من الاحتلال في ذلك العام، عام 2000؟ كيف تشعرين وأنتِ تستقبلين في هذه الأيام فواجع متلاحقة عن مجزرة هنا أو هناك، في أمكان ما من بيروت، في أمكان تتذكرين جيدا أنكِ عبرتِ في شوارعها ذات يوم، أو أكلتِ في مطعم قريب منها، وربما التقطتِ صورة للبحر في نفس مكان القصف؟ لم أكن في بيروت أو غزة من قبل لأدركَ بوضوح كيف يشعر البعيد حين يشهد، عن بُعد، مذبحة تحدث في مكان مرَّ به ذات يوم. وحين حانت الفرصة المواتية لزيارة بيروت انقضَّ الإسرائيليون من الجو عليها. لكنني أعرف من يوميات أمجد ناصر خلال حصار العاصمة عام 1982 أن «بيروت صغيرة بحجم راحة اليد»، ذلك يعني أن ذكريات كل من زارها مرشحة للقصف بنسبة كبيرة، لصِغَر المدينة.

في زمن الانهيار العربي الذي نعيش يتكاثر العرب يكبرون في المنافي والأوطان وهم أكثرُ جهلا بمدائنهِم وأقل انفتاحا على بعضهم البعض. وربما تكون جهالتنا ببعضنا، نتيجة لحواجز الاستعمار والاستبداد، هي المدخلٌ الأساسي للإجابة على السؤال: لماذا لا يتعاطف العربي مع العربي كما ينبغي، ولماذا لا يتطور تعاطفه إلى فعل سياسي؟ وبيروت الآن مثالا. أتصور أن من زار بيروت وترك ذكريات فيها هو أكثر من غيره قدرة على الإحساس بالشخصيّ في علاقته بالمكان، وبالتالي أكثر قدرة على التعاطف مع مأساته بطريقة أوضح ممن لم يكن هناك في يوم من الأيام، والذي لا تفرق عنده بيروت عن غيرها من المدن.

قد تكون هويتنا/ هوياتنا العربية الجديدة أكثر انفتاحا على الآخرين (غير العرب) من انفتاحها على الذات (العرب). ويجدر أن ننتبه إلى أن أجيالا من العرب باتوا يتقنون السياحة والتسكع في شوارع باريس أو لندن أكثر من معرفتهم بدمشق وبيروت وبغداد وصنعاء... إلخ. يتفاقم الاغتراب عن الجغرافيا الأصلية لدى أجيال توزع ذكرياتها وحياتها في عواصم تتكلم بغير لغة أمهاتهم.

هنا يتدخل الأدب ليصل ما تمزق من الجغرافيا. صحيح أن الإسرائيليين منعوني من السفر إلى بيروت هذه المرة، لكنني أشعر بتواصل عميق مع المدينة من خلال الأدب. أستطيع أن أتجول في بيروت القرن التاسع عشر كما رممها ربيع جابر في رائعته «بيروت مدينة العالم».

كما أستطيع أن أتأمل في قصيدة «بيروت» لمحمود درويش كيف يعمّر الشاعر مدينة خارجة من الحرب ويحولها إلى نشيد. فالجغرافيا البديلة التي يقترحها الأدب العربي لنا في زمن اللجوء والشتات هي جغرافيا اللغة العربية: «ويجمعنا إذا اختلفت بلادٌ/ بيان غير مختلفٍ ونطقُ» كما قال أحمد شوقي.