بيان مضاد للثقافة الشعبية (٢)
طيلة الأسبوع الماضي بعد نشر مقالة "بيان مضاد للثقافة الشعبية" وأنا أفكر فيما لو كانت ترجمة "popular culture" بـ "الثقافة الشعبية" موفقة، وأرجح أن استخدام مفهوم "الثقافة الجماهيرية" قد يكون أكثر وضوحاً، ثم انتبه أن هذا السؤال ينطوي على علامة أخرى حول عدم مناقشتنا لهذه الظاهرة عربياً كما يجب.
إن نمط تتبع هذه المؤشرات والعلامات، فكرَ فيه أولئك الذين شكوا بالإنتاج الذي طرحته الثقافة الشعبية في العقود الأخيرة، أحدهم سايمون رينولدز، فذهب لرؤية ما أسماه بـ تآكل الذاكرة، عندما انتبه إلى أنه لا يتذكر انتاجات بعينها عن مرحلة كاملة، اذ تم محو كل الإنتاج الثقافي من خلال اندفاع وتدفق التالي والتالي، بينما يتقدم الزمن بنا بكل رعونة على الرغم من عدم احساسنا به. وكعلامة ثانية على تغير شكل الإنتاج الثقافي الذي نتعامل معه اليوم، يسأل رينولدز عن تجربة الفن عندما كانت يوماً ما أكثر جماعية ومزامنة مما هي عليه اليوم، أمام التدفق الهائل للإنتاج خصوصًا بعد ظهور منصات مثل يوتيوب وغيرها، حيث يمكن الوصول للأرشيف المفتوح بسهولة، من الصعب اليوم أن تقطع شوطًا في الحديث مع صديق عن عمل شاهده كلاكما.
إن الأمر لا يتوقف على علاقتنا بالمنتج الذي نقرأ أو نستمع إليه أو نشاهده، بل وكما أشرت في الجزء الأول من هذه المقالة يرتبط بصورة كبيرة حول إذا ما كان لذلك تأثير على حريتنا الاجتماعية، السردية التي تبناها وفككها عالم الاجتماع أدورنو. في الوقت الذي أصبحت فيه المؤسسات تستخدم ما يمكن أن يُعتقد بأنه مسوغات موضوعية لتبني كل ما هو "خفيف" و "بسيط" في إنتاجها ولا تكمن المشكلة في ذلك، بل استبعاد وتجاهل ما هو أكثر تعقيداً وما يحتاج لأناة في تشريحه ومعالجته.
أتذكر حتى فترة قريبة أننا كنا نناقش مسألة الأدب، وهل ينبغي أن يكون لصيقًا بالكارثة والحدث الكبير، أم أن اليومي هو مادة قد تصنع عملاً أدبياً لا يمكن تجاوزه؟ لكن سرعان ما اكتشفت أن هنالك مستويات أخرى من هذا الجدل، وهي عن اليومي وما يعنيه؟ فترى الكثير من المؤسسات الصحفية في العالم اليوم، أننا بحاجة مثلاً لمعرفة اذا ما كانت ساعة أبل ستفيدنا بالفعل في رحلة خسارة وزننا؟ إنها اذن أسئلة تتمحور لو اقتربنا وأصغينا جداً إلى تفاعلنا مع منتجات تغزونا في هذه اللحظة. أي أنها قريبة من يومنا بالفعل. ثم يلحُ ذلك السؤال الذي يحاولون موارته خلف كل مسوغاتهم الموضوعية، هل هذا كل شيء؟ ماذا عمن لم يمتلك هذه الساعة يوماً أو لن يمتلكها؟ حسناً فلنفترض أنهم يخاطبون شريحة معينة من الجمهور، تكونها طبقة اجتماعية تستطيع اقتناء هذه الساعة، ماذا عن مسألة الإحباط من أنها غير قادرة على مساعدتي كما توقعت منها، ثم رغبتي في منتج آخر أظنه سيتمكن من صنع الفارق بالفعل؟ وهكذا في حلقة من هذه السلوكيات، أتجنب مسائلة حقيقة أن هذا يمكن أن يكون شرهاً بالأشياء يدفعه الخواء الروحي، أو شعوراً بانعدام الثقة في كل ما يمكن أن يصبح بين أيدينا. ببساطة تتجنب منتجات الثقافة الشعبية الخوض في ذلك، فهي ستقدم لك في المرة التالية عوضاً عن الإجابات الحقيقية عن أسئلتك اليومية المؤرقة موضوعاً عن: ما الذي يعنيه أن تتخلص من هذه الساعة أو تستبدلها بواحدة من ماركة تجارية أخرى.
خلال الأسبوعين الماضيين أصبتُ بكورونا، وكانت تجربة مؤلمة وقاسية، وعلى الرغم من أنني خلال سنتين من الجائحة كنتُ أقدم برنامجاً يومياً مباشراً على الإذاعة، واستضفت العديد من المتخصصين للحديث عن هذا الفيروس، إلا أنني وعند اختبار الأمر لأول مرة وجدتُ أن لدي أسئلة لا أملك إجابة عليها، خصوصاً وأن المتحورات عن الفيروس يختلف كل منها عن الآخر، لذلك فتحتُ جوجل كما سيفعل معظم الناس وبحثت عن إجابة عن أسئلة تتعلق بالأمر، وجدتُ أن المحتوى على الانترنت غارق فيما يمكن أن يكون قصة جذابة ومختلفة حول الفيروس وأن هنالك جهداً أقل في تقديم مادة خبرية جادة ورصينة ومدعمة بمصادر علمية حول الموضوع. سرعان ما تذكرت مسلسل "البرنامج الصباحي" الذي أنتجته شركة أبل تي في، عندما جاءت مذيعة من قناة ترفيهية لمذيع يعمل في هذا البرنامج لتعرض عليه الانتقال معهم فتقول له، صحيح أننا نقدم مواداً ترفيهية خفيفة، حتى الأخبار نقدمها بخفة، إلا أن الجمهور متعطش للـ "الوقار" عندها ابتسمتُ كثيراً فأخيراً هنالك من يعترف بذلك بعد كل شيء.
في النهاية يبدو أن تقديم أي منتج ثقافي لا يستطيع أن يدعي أنه خارج أيدلوجية معينة، بل في التنفيذ يتمثل جوهر الأيدلوجية التي ترى العالم بطريقة محددة. لا تستطيع هذه المؤسسات الثقافية والإعلامية أن تدعي أنها محايدة، أو تُغيب عنا واقع ما تفعل من خلال تمرير كلمات كبيرة مثل "الرأسمالية" أو "النسوية" وغيرها من المصطلحات التي تعد رائجة اليوم وموحية بالتحرر أو الانتماء للهامش والمقاومة واليسار، وتحمل في قولها طبقات من الدلالة حول معرفتك وتقاطعك مع العالم بغض النظر عن مدى معرفتك الفعلية بها. ليس هنالك أي انتاج ثقافي مفرغ من أجندة تخدم أيدلوجية بعينها. فالغياب في المحصلة هو حضور أيضاً، مثلما يعد الصمت في مقطوعة موسيقية نوتة أخرى وليس مجرد انتقال ومسافة بين نوتات متفرقة. ويبدو أن كل ما نحتاجه هو أن نكون صادقين حول رغبتنا في تقديم منتجات الثقافة الشعبية، فغالباً ما تضطر وسائل الاعلام في الخارج وهي ربحية بالكامل لأن تقدم مادة خفيفة لكي تحصل على مردود مالي، فيستمر وجود الوسيلة/الشركة. لكن المشاريع الخليجية غالباً ما تمولها الحكومات أو أصحاب رؤوس الأموال لاعتبارات أخرى، أظن بأن الدخول لأي اجتماع فريق تحرير هنا سيكون فارقاً في تشكيل إجابة حقيقية على هذا السؤال، فهنالك طوفان من الأشخاص "متوسطي الموهبة" كما يصفهم آلان دونو في كتابه Mediocracy: The Politics of the Extreme Centre ، يريدون تقديم أنفسهم بهذه الطريقة حصراً لا لأن هذا ما تطلبه أنت أيها المشاهد بل هذا ببساطة ما يستطيعون تقديمه لك.