بعثة الحج
بعثة الحج العمانية من المؤسسات التي تعمل بشكل موسمي منذ عام 1972م عندما تشكلت أول بعثة بأوامر سلطانية.. هي بعثة كبيرة تتشكل بقرار من وزير الأوقاف والشؤون الدينية ويتحدد فيه رئيسها كل عام.. إلى جانب الإداريين والمرشدين الدينيين التابعين للوزارة.. تحوي البعثة عدة وفود مثل شرطة عمان السلطانية بعدد رمزي، والوفد الإعلامي، والوفد الكشفي، والوفد الصحي الذي يكاد يشكل بعثة داخل البعثة بعدته وعدد أفراده، لذلك فالوفد الصحي كانت له بناية موازية، لأنه يحوي عيادة البعثة.. تشرفت بالمشاركة فيها وأداء الحج أكثر من مرة.. البعثة هي أول المغادرين وآخر العائدين إلى أرض الوطن لطبيعة المهام الموكلة إليها.. كما أن هناك بعثة أخرى هي البعثة العسكرية التي يحظى فيها كل عام عدد من رجال القوات المسلحة والجهات الأمنية بفرصة لأداء فريضة الحج.. وحديثي هنا عن البعثة المدنية الرسمية فقط، وعن المشاركة الإعلامية.. في المواسم التي شاركت فيها لاحظت التطور الذي يحدث في البعثة وما تقدمه من خدمات للحجاج العمانيين- وهذه هي مهمتها الأساسية-. وهو انعكاس طبيعي لما تشهده البلاد من تطور، إلى جانب ما شهده الحرمان الشريفان والمشاعر المقدسة من تطور مذهل.
في السابق كان الوفد الإعلامي يتكون من الإذاعة والصحافة فقط، ثم أضيفت وكالة الأنباء العمانية، ثم تلفزيون سلطنة عمان، بل وحتى السوشل ميديا (التواصل الاجتماعي) ليكتمل تمثيل الوفد الإعلامي بقطاعاته ووسائله.
كانت المهمة تستغرق شهرا تقريبا.. تسافر البعثة برحلة طيران خاصة، وكانت تبدأ من المدينة المنورة، قبل أن تجرى بعض التعديلات، حيث نقضي فيها عددا جيدا من الأيام.. بمجرد الوصول تصبح البعثة خلية نحل بشكل ملفت، حيث تبدأ مباشرة بتقديم خدماتها.. الإداريون مشغولون بأمور لا أفهم تفاصيلها، ولكن واضح أنهم يتولون أمورا عدة لنجاح عمل البعثة، فهذا يحمل قوائم الوفود والمقاولين، وذاك مشغول بأمور الإعاشة والتغذية محاولين إرضاء الجميع، وقد لا يسلمون من بعض النقد في مستوى الخدمة، أو وجبة الغداء أو العشاء، وآخر ينسق لحركة السيارات والمتابعة مع الجهات السعودية، خاصة لأوقات الذروة في منى وعرفات والمشاعر المقدسة عموما، وترتيب تبادل الزيارات بين رئيس البعثة والوفود المشاركة من جهة مع الوفود النظيرة من جهة أخرى، أو زيارة أمير المدينة المنورة ثم أمير مكة، الذي قد نحظى منه بهدية عزيزة، عبارة عن قطعة من كسوة الكعبة من موسم فائت، ويمكن أن ترقى الزيارات قبل نهاية المهمة إلى السلام على جلالة الملك خادم الحرمين الشريفين.
فور الوصول تفتح العيادة أبوابها للمراجعين والحالات الطارئة. ولدى الوفد الصحي أوامر بمعالجة أي مريض يصل إليهم سواء من الحجاج العمانيين أو غير العمانيين، بل حتى سكان الحي المحليين يمكنهم الاستفادة من خدمات العيادة.
وينتشر الوفد الكشفي الذي يقدم خدمات أقرب للعسكرية أو الشرطية، خاصة وأنهم أكثر مرونة سواء بطبيعة ملابسهم أو بأعمارهم الشابة، فتجدهم شعلة من النشاط والحركة الميدانية، ينظمون الحركة في حدود البعثة ويهتمون بكبار السن من الحجاج، وخاصة المفقودين أو من أضاعوا طريق العودة لمخيماتهم ومساكنهم.
أما نحن (الوفد الإعلامي) فكل منا حسب الوسيلة الإعلامية التي يمثلها، يقوم بمهامه لتغطية النشاط الرسمي للبعثة، وينقل نبض الحالة هناك.. من أبرز هذه المهام برنامج (سلامات الحجاج) الذي يبث طوال موسم الحج، تزينه مقدمة (والنبي يا رايحين أرض الكرامة) لنجاة الصغيرة، وأغنية (القلب يعشق كل جميل) لأم كلثوم التي تصف تفاصيل رحلة الحج، ورائعة أبو بكر سالم (إلى طيبة)، التي تصف رحلة إلى المدينة والمسجد النبوي الشريف، والابتهالات والأناشيد التي تضفي حالة خاصة على الموسم.
للأسف توقف (سلامات الحجاج) لانتفاء السبب الذي ظهرت من أجله وهو أنه لم يكن كل المواطنين يملكون هواتف في بيوتهم، وخاصة خارج العاصمة، ولكني أرى أن ذلك هو أحد الأسباب فقط، وتمنيت استمراره، لأن الفكرة فيما تضفيه تلك المادة الأثيرية من روحانيات، وما تنقله من تفاصيل جميلة ومهمة كجرعة دينية اجتماعية، بل وحتى من الطرائف التي نبث بعضها، ونحجب أخرى لضرورات مهنية.. مما سمعته ممن سبقوني في بدايات النهضة عندما كان قلة من الناس يعرفون المصاعد الكهربائية، أن أحدهم بمجرد دخوله مصعد بناية البعثة اعتقد أن هذا هو الاستديو فبدأ يبعث سلامه لأحبابه ويبث لهم أشواقه وحنينه.. وعند تسجيلنا لهذه الفقرة ذات مرة صف أحدهم مع الطابور المنتظر وعندما وصل دوره ورأى جهاز التسجيل غضب وأخذ يكيل علينا كلاما ثقيلا وأن هذا الصنم (جهاز التسجيل) شرك بالله ولا ينبغي أن نقوم بهذا!! إذن لماذا أخذ دوره في الصف؟!.. بعضهم يكلم أهل بيته وكأن أحدا لن يسمعه، فيوصي ابنه أو يكلفه ببعض التفاصيل، أو يعتب على أحدهم، وقد يدخل في تفاصيل تجهيزات العيد وما شابه، وآخرون يقدمون دروسا رائعة ومشاعر جياشة في مداخلاتهم.. في موسم 2002 م وقد كنت في هذه الفترة أقدم برنامج (البث المباشر)، اقترحت على الإدارة بث حلقة عن بعثة الحج مباشرة من الديار المقدسة، ما دمت سأكون هناك.. الإمكانيات الفنية متواضعة إلى حد ما، وحتى لا اضطر إلى استئجار استوديو أو ما شابه فقد عثرت في مخزن الإذاعة على جهاز، أخبرني الفنيون أنه لم يسبق أن طلبه أحد، فيه إمكانية شبكهِ بالخط الأرضي كهاتف، ومزود بفتحات لأكثر من ميكروفون، وفتحة لجهاز تسجيل، وأخرى لسماعة الأذن وغيرها من التفاصيل الفنية. أي أنه مِكسر بالمصطلح الإذاعي (audio mixer). فأخذت العدة معي، واضطررت هناك لشراء بعض القطع والوصلات، فقمت بمزج هذه الأجهزة، مستضيفا الشيخ أحمد بن سعود السيابي رئيس البعثة، الذي لا نمل من أحاديثه عن التاريخ العماني، والدكتور سالم الزنجي رئيس الوفد الطبي، الذي كنت أأنس للحديث معه حتى بعيدا عن الطب، بينما يمرر المخرج حبيب عبدالله الفواصل من المحطة في مسقط، وظهرت الحلقة على الهواء من مقر البعثة في المدينة المنورة، وإن كانت بصوت ضعيف. كنا نتصبب عرقا طوال الحلقة، لأنني اضطررت لإغلاق المكيف تجنبا لصوت الهواء.. تنفيذ مثل هذا العمل اليوم سهل جدا، ولكن في ذلك الوقت شعرت ببعض الانتصار.
المدينة المنورة، مريحة ودودة.. بعد انقضاء الأيام المقررة فيها، والتي كانت فرصة مهمة للفوز بالصلاة في الروضة، والسياحة في الأماكن التي شهدت أحداثا تاريخية بعد الهجرة النبوية، ومتعة استحضارها، ننتقل برا إلى مكة المكرمة، وقد قربت أيام الحج، مرورا بالميقات، لنصل إلى مكة المكرمة محرمين. وهذا من الأيام المهمة والمتعبة للبعثة وأفرادها لتنقل خدماتها بشكل سلس من المدينة إلى مكة. فعلى البعثة أن تظل نشطة في كل المواقع خاصة مثل منى وعرفات والنفرة منها، حتى العودة إلى منى مرورا بمزدلفة.
ومع بقائه على تواصل ببعثته لتغطية نشاطاتها، هنا ينفصل المذيع عن بعثته، ويصبح في ضيافة الإعلام السعودي تهيئة لمشاركة الزملاء من الدول الإسلامية في النقل المباشر ليوم الحج الأكبر ونفرة الحجاج، من قمة برج الاستوديو الخاص في مسجد نمرة، في مشهد وحالة من أروع حالات عمل الإذاعة الخارجية. كما أنها فرصة للالتقاء بالزملاء من الإذاعات الأخرى، خاصة على مستوى مجلس التعاون. إضافة إلى الزملاء من الفريق الإعلامي العماني، وأصدقاء جدد من البعثة، لا يتسع المجال هنا لذكرهم، وأكتفي بزملاء الميكروفون الأساتذة غانم الدعن وداود القاسمي وأحمد العامري.
الحج بطبيعته من الأركان الصعبة على مر الزمان، حتى مع توفر كثير من أسباب الراحة لنا كبعثة رسمية وضيوف على المملكة، كما أنها من الأيام التي تبقى في ذاكرة كل حاج يعيش التفاصيل منذ خروجه من بلاده مودِعا، مرورا بالميقات والإحرام، واللحظة التي يرى فيها الكعبة المشرفة لأول مرة محاطة بجبال النور، وفرحته بتمام المناسك، وتجواله في الأسواق المحيطة ليعود إلى أهله حاملا (صوغات) الحج من عبوات ماء زمزم وتمور المدينة، وسجادات الصلاة، وعطور المسك والعود، وعباءة أنيقة سيخص بها زوجته وشالٍ دافئ لوالدته وبشتٍ شتوي لوالده، وكمّ من المسابيح للأصدقاء ولمسجد الحارة، وللصغار(العكّاسات) الملونة التي حافظت على أشكالها إلى اليوم، وسيشعر الأحبة ببركة هذه الهدايا، لأنها برائحة تلك الديار، حتى وإن كُتب خلفها Made in China .
وحتما نمر بمواقف كثيرة بين متعب ومضحك، تبقى في الذاكرة، كأن نضيّع الطريق في بعض المسارات المزدحمة، أو نخطئ العدّ في السعي والطواف، أو أن يلتبس على أحدنا فارق العملة بين الريال السعودي والريال العماني، فيشتري كمّا من الهدايا التذكارية بسعر يعادل عشرة أضعاف ما تخيل.. ومما لا أنساه المشي الذي قطعته وبعض الزملاء طوال الليل من عرفات إلى الحرم المكي، لأظل بعدها غير قادر على الحركة ورمي الجمرات طوال أيام التشريق. ومن طرائف هذه المناسبة أيضا عندما طلبت من السائق أبو البشر (اسمه الأصلي آدم، و قد لقبه أحد المشايخ بأبي البشر) أن يأخذني للحرم المكي في ذروة الزحام، فاعتذر لي قائلا: مستحيل، إلا إذا تقبل آخذك في سيارة الإسعاف كحالة طارئة، وأنزلك بعيدا قليلا، فقبلت لحاجتي الملحة، واختار سيارة غير مجهزة، لأجد نفسي نائما إجباريا على سرير ضيق غير مفروش، وبيني وبين السائق حاجز يمنعني من التواصل معه، وقد ملء سمعي بصوت اللواح (بوق الإنذار) وهو يخترق الشوارع نزولا وصعودا وتفسح له الطرق، بينما أنا في الخلف أتمسك بيديّ ورجليّ حتى لا أقع من ذلك السرير الحديدي المرتفع، في مشهد يصلح لفيلم كوميدي، حتى وصلت مجهدا فعلا، وأنا أختلس النزول لكي لا يراني أحد بهذه المخالفة الصريحة، التي دفعت فيها ثمن كذبتي.