الوقاية أرخص من العلاج
اقتربت مني سيدة عجوز على كرسي متحرك في إحدى محلات السوبر ماركت، لم أتعرف عليها، لولا بقايا من نبرة صوت منهكة وهي تلقي علي التحية، تعرفت من خلاله على صاحبة الصوت التي بالكاد تكبرني بخمس سنوات، تحدثنا قليلا حكت لي ما حدث في حياتها السنوات الأخيرة التي باعدت بيننا، فقد أصيبت بمرض نادر أقعدها الفراش عدة سنوات، مما اضطرها إلى بيع كل ما تملك في سبيل البحث عن علاج في الخارج.
على الرغم من وجود علاجها في السلطنة، لكنها ترفض العلاج في المستشفيات الحكومية، الذي يتطلب البقاء في المستشفى عدة أيام ليتسنى عمل الفحوصات اللازمة، وذلك لعدم وجود من يهتم بزوجها وابنيها الذين يعتمدون عليها اعتمادا كليا، رغم أنهم تجاوزوا مرحلة الطفولة بكثير، لكنهم ما زالوا يعتمدون عليها في أبسط أمور حياتهم، بما فيها المصروف اليومي، كونهم بلا عمل، وسبب رفضهم العمل أنهم عجزوا عن الحصول على وظيفة مريحة، فالوظائف التي حصلوا عليها وظائف شاقة، تتطلب العمل تحت الشمس الحارقة، أو حمل معدات ثقيلة، أو أنها تتطلب ساعات طويلة لا يحتملها صغيراها.
أتذكر كيف كان من حولها ينصحها بأن تترك صغيريها يكبران، ويعتمدان على نفسيهما، أو أن تحاول أن تشجعهما على الاستمرار في المدرسة، وكانت دائما ما تتعلل بأنهما صغار، لذا كانت دهشتي كبيرة عندما اكتشفت أنه بعد عشرين عاما من آخر مرة رأيتها، مازال الصغار صغارا.
أتذكر كيف كانت تكتفي بالتداوي في عيادة صغيرة بمحاذاة منزلها تذهب لها مشيا، رغم أن المركز الصحي ليس ببعيد عنها أيضا، عندما بدأت بوادر المرض، على شكل آلام في أجزاء متفرقة من جسمها، نصحتها كما نصحها غيري بسرعة مراجعة الطبيب، لكنها فضلت زيارة قريبتها (المعلمة) التي أقنعتها بأنها مصابة (بضر).
لم يكن المرض بمستغرب من خلال رؤية أسلوب الحياة التي كانت تعيشه هذه السيدة، فقد كان البيت في منتهى القذارة، وكانت دائما ما تشتري بالمصروف الذي يتركه لها زوجها - والذي جاء من عائلة ثرية، ولديه دخل عال - أرخص أنواع الطعام، والذي بالكاد يتكون من النشويات والمعلبات، ولا وجود للسلطة على المائدة باستثناء بعض الفجل والجرجير في إجازات نهاية الأسبوع، كذلك كانت الفاكهة زائرا نادرا على مائدة العائلة، في المقابل كانت تدخر كل ما تحصل عليه وزوجها من أجل شراء أراض تحتفظ بها للزمن، أو تنفقه على هندام صغيريها.
حزنت جدا عندما عرفت أن هذا (الزمن) الذي كانت تدخر له جاء سريعا، إذ باعت كل ما تملك من ذهب وأراض لعلاج نفسها، ثم علاج زوجها الذي تدهورت هو الآخر صحته، لكن الحياة لم تمهله وتوفي متأثرا بمضاعفات المرض.
فيما بقيت أهم ما كان يجب أن تستثمر فيهم - أولادها - معاقين دلالا.