النسب .. موصول بالمودة
تُمْتَحَنُ المودةُ في كثير من نقاط تقاطعاتها مع الأطراف التي: من الواجب، من المؤمل، من المفترض، من المسنون، من المندوب، من المكروه، أن تلتقي معها، ذلك أن كل الأطراف تعيش على النقيضين (الحب/ الكره) يزيد أحدهما على حساب الآخر في لحظة ما، ويحدث العكس في لحظة أخرى، وذلك كله اعتمادا على حالتي الصفاء والرضا، أو حالتي الكره والغضب، ومن الحسن والمؤسف في آن واحد أن هذين النقيضين ليس لهما تاريخ انتهاء، فهما حاضران على طول خطي الأفقي والعمودي في مجال العلاقات بين مختلف الأطراف، إلا أنه، ومع ذلك فإن تم التسليم لهذه الحقيقة بين الأطراف التي لا تجمع بينهما حالة نسب، فإن هذا التسليم لا بد له أن يكون له «خط رجعة» للأطراف التي تجمع بينهم حالة نسب، فهذا أمر شرعي أكثر منه اجتماعي، ولأنه شرعي مرتبط بشمولية الدين – فالإيمان بالدين لا يتجزأ- فعلى النقيضين (الحب/ الكره) في حالة حضورهما معا، أن ينسلا بعيدا، ويبقى ما يلثم ثغرة التناقض، وهنا يشار إلى الحب والمودة أكثر، فهما الكفيلان برتم مجموعة الانشقاقات التي تحدث من أثر تقاطع العلاقات بين الناس، سواء في حالة النسب، وهي الأهم أكثر، أو في حالات العلاقات العابرة، وأصفها بـ«العابرة» لأن مقومات دوامها لا ترتبط بالنسب، وإنما تكون في إطار العلاقات العامة بين الناس، تتأصل في مرحلة زمنية معينة، ولظروف خاصة، أحيانا، وتنفك عراها في مرحلة زمنية أيضا ولظروف خاصة، إلا في حالات استثنائية، والتي يعض فيها كلا الجانبين أو أحدهما بالنواجذ للبقاء لأطول فترة زمنية ممكنة، وهذا من الإحسان. يمثل النسب مشروعا اجتماعيا كبيرا، وضخما، ومعقدا، فهو الشبيه بكرة الثلج المتدحرجة، تزداد نموا، ولا تنقص إطلاقا، لأن التسلسل الآتي من ذلك البعيد البعيد حيث الأجداد، لا يزال مستمرا في مسيرته، حيث الآباء فالأبناء فالأحفاد، ومن ثم القائمة تطول، فالقافلة في طريقها إلى ما لا نهاية، إلا بنهاية الحياة الدنيا، حيث ختام الغايات، وبذلك فالمسألة في غاية الأهمية، وفي غاية التعقيد كذلك، وفك رموز تعقيداتها لا ينهيه إلا تجاوز مظان النفس التي لا تلبث بعد كل فسحة للرضا، إلا وتعانق صداما آخر للكره، حيث تبقى المودة حائرة بين طرفي النزاع، وتنتظر لحظة الرضا والأمان، لكي تستبسل في بقائها على أطول مدة ممكنة لخاطر بقاء هذا النسب وتعزيز دوره الاجتماعي في حياة الناس، وعدم تشويه صورته إكراما لما جاء من تبجيل له في كثير من نصوص القرآن الكريم، ومن الهدي النبوي الشريف، على صاحبه الصلاة والسلام، ومن ذلك قوله، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الأَثَرِ» – ومعنى «منسأة في الأثر» أي زيادة في العمر – كما جاء في المصدر، ووفق نص الحديث فإن الأرحام تتناسل من الأنساب. يأتي تصادم الأنساب، نتيجة أسباب كثيرة، أغلبها النزعة الذاتية التي تستهجن التطاول عليها، ولذلك يكون تصادم الأنساب مؤذيا، وقسوته على النفس أكثر أثرا، للارتباط الوجداني القائم بين الأنساب، وقول طرفة بن العبد: «وظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً عَلى المَرءِ من وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ» يعكس هذه القسوة الوجدانية على كلا الطرفين، وإن أظهرا صمودا مفتعلا، بتمسك كل منهما بموقفه، وأنه الأصح في تبرير ظلمه، أو إساءته للطرف الآخر، والمبررات مهما كانت وجاهتها، وواقعيتها، يفترض أن تنسحب من ميدان تفاعل الأنساب، وعدم حشوها بالمفرقعات المشتعلة حريقا لا يذر مع انطلاقة شرارته الأولى. |