الموجة السوداء
صدرت حديثا عن دار جسور للترجمة والنشر، الترجمة العربية لكتاب «الموجة السوداء: المملكة العربية السعودية وإيران وصراع الأربعين عاما الذي بدد الثقافة والدين والذاكرة الجماعية في الشرق الأوسط) للكاتبة الصحفية اللبنانية كيم غطاس. وُيّصدر الكتاب نفسه على أنه محاولة للإجابة على هذا السؤال: «ماذا حدث لنا؟»، إنه السؤال الذي يطاردنا نحن العالم العربي والإسلامي، نعيده على أنفسنا ونكرره وكأنه بات شعارنا. هذا الكتاب، وإن كان يسافر إلى الماضي، فإنه غير مدفوع بالحزن والحنين لعصر ذهبي أو زمن جميل. إن هدفي منه هو محاولة فهم متى ولماذا بدأت الأمور بالانهيار».
تبدأ القصة الرئيسية للكتاب من العام 1979 العام الذي حدثت في الثورة الإيرانية، وتتالت بعدها أحداث أثرت في العالم الإسلامي، وأشعلت المنافسة بين دول الإقليم للفوز باحتكار قيادة العالم الإسلامي وامتلاك النسخة الصحيحة من الإسلام، فبدأت حروب بالوكالة تقع في شتى بلدان الشرق الأوسط، حتى تلك التي لطالما عرفت بتعدديتها الثقافية ورسوخ هذه التعددية في نظامها الحاكم وفي فاعلية النخب الثقافية فيها. إلا أن الكتاب وبطبيعته التي تقتضي النبش في التاريخ، لا يبدأ منذ عام 1979 فحسب بل ينجح دومًا في الذهاب بنا بعيدًا عندما يتطلب الأمر ذلك لفهم تشكل مختلف الظواهر، ومحاولة تقديم سردية واضحة لما حدث بالفعل.
كشابة عربية ومسلمة، كان هذا الكتاب بالنسبة لي مهمًا؛ لأنني نشأت في واقع يقول إن أهم محطات التاريخ التي شكلت الحياة في العالم العربي هي 1948مع النكبة أو 1967 مع أحداث النكسة، لكن العام الذي تبدأ منه قصة هذا الكتاب وتعود إليه لم يكن بتلك الأهمية، ربما لأن اللاعبين الذين غيروا تاريخ المنطقة في هذا التوقيت، ما زالوا في المعركة نفسها، ومن الصعب بمكان قراءة ما يحدث من خارج هذه اللعبة التي أثثت واقعنا المعيش وجدالاتنا الفكرية بل وحتى آمالنا المرتبطة بمستقبل أفضل للمنطقة. إن هذا العمل البحثي الكبير الذي تقدمه الكتابة يعطي لهذه الفترة الزمنية ثقلها الحقيقي، ويخرجنا -وإن عنوة- من داخل هذه المعركة للنظر إليها من الخارج، ولمعرفة كم من الوقت استغرقنا فيها، ولم يستمر ذلك في الحدوث على الرغم من أننا نتخيل المستقبل يتقدم للأمام، أو يسير في خط مستقيم نحو نهاية حتمية معروفة سلفًا، إلا أن هذه ليست هي طبيعة التاريخ.
لا أريد الحديث عن موضوع الكتاب بشكل خاص؛ إذ لا غنى عن قراءته، لكن أودّ التأكيد على الأسلوب الذي اتبعته الباحثة في كتابته، وكيفية معالجتها لكل هذه القصص الشائكة والمعقدة، تعمل الكاتبة أولا وبوعي كبير على النظر في الخيوط السرية التي تجمع بين شتى الأحداث التي حصلت في المنطقة، إنها لا تتبع «أثر الفراشة» بل تمسك بالرفة التي ما أن تحققت حتى حدثت الموجة التالية في مكان آخر، لتقول لنا ما الذي جمع بينهما، وما إذا كان في تلك العملية فاعلون انتقلوا أو التقوا أو تأثروا ببعضهم ليكون ما قد كان. لقد أذهلني هذا كله، فإن يكون من اغتال السادات، هو من أسس تنظيم القاعدة في أفغانستان يمكن أن يقول لنا الكثير عن طبيعة العالم العربي والإسلامي ووحدته، وعن رفض الكثير من القوى فيه أي تغيير سياسي وإن كان بعيدًا عنها على المستوى الجغرافي ولكنها تدرك أن المصير مشترك وأن تأثير الفراشة سيطير إلى زلازل وبراكين واجتياح للموج في مكانها نفسه.
تعتمد الباحثة على مصادر عديدة لسرد كل هذه القصص، لكن أهمها من وجهة نظري هي المقابلات المذهلة التي أجرتها ليس من وقت بعيد بل قبيل إصدار هذا الكتاب مع شخصيات وقيادات مهمة أثرت في كل هذه التحولات وكانت جزءًا عضويًا وبنيويًا فيها. فالكاتبة تكون فجأة في أمريكا ثم في العراق، إنها إذن في رحلة طويلة لمتابعة أصوات مترامية في العالم إلا أن لها دورًا فيما حدث. ولا تكتفي الكاتبة بمتابعة من هم في مركز هذه الأحداث، وكأن الحياة هذه تحدث في مكان معين فحسب، بل تذهب إلى الهامش عبر القصص التي تقدمها لنا عمن تأثروا بتلك الأحداث وكان لهم دورهم الشخصي فيها، وانعكاس تلك التحولات الكبرى على واقعهم اليومي، لتأخذنا مع أبطال من مستويين، المركز والهامش على حد سواء. تبزغ أسماؤهم مهما اعتقدت أن وقتهم انقضى مع انتهاء فصل معين في تاريخ هذه المنطقة خلال الأربعين عامًا الماضية، إلا أننا نشهد مصيرهم كلما مر الوقت وكلما تقدمنا في الكتاب.
ما أعجبني وبشكل خاص هو الفكرة التي كونتها عن دور النخب الثقافية واليسار فيما حدث. إن كل التحولات بلا استثناء كان يقف وراءها المثقفون العرب والمسلمون، حتى أولئك الذين قدموا أنفسهم كليبراليين أو يساريين ساهموا في تكريس حضور الجماعات الإسلامية المتطرفة في السلطة؛ لأنهم وفي لحظة ما آمنوا بأن تحقيق الاستقلالية لبلدانهم والتخلص من الاستعمار والمشاريع الإمبريالية في المنطقة لازم حتى وإن تطلب الأمر دعم فصيل معين وإن اختلفوا معه. لقد فكرتُ كثيرًا في الدور الذي لعبه المثقفون، وبالتالي القمع والنفي والنبذ والاغتيال الاجتماعي والتسفيه الذي يتعرض له المثقف العربي اليوم من قبل السلطة، ومحاولتها نقل هذا الاغتيال ليصبح صوت المجتمع؛ لأنها تدرك قطعًا الدور الذي يمكن للمثقف هذا المثقف نفسه أن يلعبه فيغير كل شيء كما يقول لنا تاريخ المنطقة. لابد أن نقرأ هذا الكتاب لنعرف أن لدينا مسؤولية كبرى لمستقبل ينبغي أن ننجزه معًا.