المقاطعة والامتيازات الطبقية
شغلني فـي الأيام الماضية التفكير فـي مسألة المقاطعة، يبدو أننا ناجحون فـي تحويل كل شيء إلى وسيلة للإلغاء، فـي ثقافة عُرفت بالإلغاء أكثر من أي شيء آخر خلال العقد الماضي. فعلى الرغم من كون ما نفعله جيدا، إلا أنه ومن غير المقبول أن تكون لدينا أخطاء أو عيوب، أو مثالب. لكن ماذا لو تم استخدام ممارسة الإلغاء من قبل من يمتلكون الامتيازات حصرا، تحديدا فـيما يتعلق بسياق مقاطعة المنتجات الداعمة للاحتلال الصهيوني؟ هذه ليست دعوة للتفكير بضرورة الإيمان بجذرية بجدوى المقاطعة، ولكن للتفكير بجذرية حول الخيارات الأخرى البديلة. أعتقد بأن الإلغاء ممارسة سلبية لا تنتج شيئا، إنها ببساطة توقفنا عند نقطة ما تُشعرنا أننا حققنا انتصارا، إلا أن تلك النقطة سرعان ما تهمد وتتلاشى. بينما أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، لفتني حساب أحد المؤثرات على الإنستجرام، والتي عُرفت بمساندتها القضية الفلسطينية حتى قبل أكتوبر 2023 فـي حالة قد تكون استثنائية، إذ لا يتشبك المشاهير مع المجال العام، ولا يعبرون عن آرائهم حولها لأسباب عديدة منها الخوف على سلامتهم من التجاوزات الأمنية الداخلية فـي بلدانهم، أو التأثير على فرصهم فـي التعاقد مع الشركات الكبرى، التي يعتمد الكثير منهم عليها اعتمادا مطلقا، لا أحب تبني الموقف الاستعلائي بالقول إن واحدة من هذه الأسباب هو «التفاهة» أو دعوني أقول «Mediocracy» التي تحكم عالمنا اليوم، لأنني على قناعة أنها ليست نتيجة فردانية، بل هي عمل ممنهج يتناغم مع قيم العصر النيوليبرالي الذي نعيش فـيه. أعلنت هذه المشهورة عن افتتاح محل جديد فـي مسقط، مما تسبب فـي شن هجوم واسع عليها بسبب «فرضية» أن هذه العلامة تدعم إسرائيل، عند متابعة معظم من يتبنين هذا الهجوم نجد أنهن ينتمين لعائلات ميسورة. لقد عُرفت فـي السنوات الأخيرة مطاعم «الفاست فوود» كملاذات للطبقة العاملة الدنيا فـي الكثير من دول العالم، فـي ظل التضخم وارتفاع سعر المواد الغذائية، وقلة الوقت الذي يسمح للعمال بطبخ طعامهم بأنفسهم، أو عدم وجود المساحات السكنية الموائمة لذلك. كما عُرفت العلامات التجارية المشهورة بـ«الفاست فاشن» على أنها قادرة على أن تتيح لغالبية الناس فرصة ارتداء ملابس جيدة وعصرية بأسعار جيدة، وكنتُ قد كتبت عن هذه الشركات التي تستغل الأطفال والنساء فـي دول كبنجلاديش وغيرها لإنتاج عدد كبير من الملابس بتكلفة قليلة وغير عادلة للعمال. فـي مقابل هذه العلامات، هنالك العلامات المسجلة الفاخرة، التي سمعنا عن تقليعات لها، تفاجئنا كل مرة، مثل أن تمتلك «ملفا» مقنعا لوضعك فـي طابور الطلبات على حقيبة Hermes والتي يبدأ سعرها من 5000 ريال عماني. أي أن امتلاك هذا المبلغ وحده لا يؤهلك للحصول على هذه الحقيبة. ناهيك عن فضائح هذه الشركات المرتبطة باستعباد العمال، أو القضاء على الحيوانات من أجل جلودها، وغيرها من المساوئ. ما الخيارات الأخرى المتاحة إذن؟ انتشر فـي عُمان خلال السنوات العشر الأخيرة نشاط «البوتيك» وهي علامة خاصة بمصمم أو مصممة عادة ما تكون محلية، تعرض من خلالها تصميماتها الخاصة، غالبا ما يتم تنفـيذ القطع المعروضة فـي المكان نفسه الذي تُعرض فـيه، وتستخدم موارد بشرية ومادية متاحة على الأرض، تعتمد على مصممين ومصممات عمانيين مثلا، لكن ماذا عن الأسعار داخل هذه المحال؟ فلننظر مثلا لمحال «أشمغة» الرجال المحلية، التي أطلقت هوية لافتة للزبائن واكترت مساحة بيع فـي مجمع راق، هل طالعنا المبالغ الطائلة التي يتطلب دفعها من أجل سداد الكلفة التشغيلية لهذه المحال ومن ثم تحقيق الربح؟ عدا عن غلاء الأدوات وتضخم الأسعار فـي البلاد. ثم ما الذي يصبح مطلوبا من أصحاب الدخول المتدنية؟ ألا تتعامل مع من يوفر لها حاجتها، أو أن نحدثهم باستعلاء عن إمكانية تخليهم عن هذه «الرفاهية» لصالح التزامهم الأخلاقي بقضية ما. ثم ما الفرص التي يُستبعد منها هؤلاء وينبذون لأجلها إذا ما قرروا إيثار القضية على أنفسهم؟ أكرر أن هذه ليست دعوى للتطبيع مع عدم المقاطعة، لكن التفكير فـي أن هذا الأمر مسؤوليتنا جميعا، وأن شروط تغيير هذا الواقع الذي أنتج لنا كيانا غاصبا، متغلغلة وعميقة فـي بنية حياتنا، وتتطلب مراجعة لكل فكرة الاستهلاك والتملك، والتفاوت الطبقي، والفرص المتكافئة فهي إذن دعوة جذرية لا تقتصر على التلويح بمهاجمة من لم يقاطع منتجا ما مثلا. بل التفكير فـي الأساسات التي يقوم عليها هذا العالم واقتصاده، وحكم الأقلية فـيه، الذي يجعلنا ندور فـي حلقة مفرغة من الخسارة اللانهائية، والتي لا تغير الكثير كما نعتقد. على السلطات أيضا أن تعيد التفكير فـي إعادة السيطرة على القطاعات الحيوية كقطاع التغذية والصحة مثلا، بدلا من تركها لشراسة وتوحش التجار وتقديراتهم. |