«المقابلة»
تُعرفُ المرحلة الأخيرة من رحلة الاختبارات المتوالية التي يمر بها الشخص للقبول في أي وظيفة حكومية كانت أو في القطاع الخاص بـ"المقابلة".
شخصيا يروق لي أن أطلق عليها بمرحلة "المعارف" وهي خطوة نهائية يحيط بها الكثير من الغموض.. وقوة نفوذ هؤلاء المعارف وحدها التي تُسّهل عملية تمرير من أُريد له أن يمر ليقبض على الوظيفة وحجب آخر وإن كان مؤهلا أو مُستحقا.
عند هذه العقبة الكؤود، والتي بالتأكيد تُجرى بصورة صحيحة وموضوعية في بعض المؤسسات العامة والخاصة قد تختفي الكثير من الأسماء التي تجاهد لتكون بين الصفوة المنتقاة لأسباب غالبا لا يمكن معرفتها فيُكتفى بالقول عند محاولة السؤال: إنها "سرية" أو "من مقتضيات النظام" الذي تسير عليه الاختبارات أو تقديم أي مبررات أُخرى ليس مهما أن تكون منطقية فمن ذا الذي يحق له أصلا طرح أي استفسار؟ وأين يمكن العثور على الشخص الذي سيجيب عليه؟
"المقابلة" هذا المرض العضال لم نجد له حلًا بعد رغم ما تتيحه لنا التقنية من حلول عملية أو ربما أننا لا نرغب أن نبحث له عن حلٍ طالما أنه الطريق الذي يمكن من خلاله تأمين الوظائف لأولادنا وبناتنا وأبناء الأخ وأبناء الأخت والعمومة والأصدقاء والأحبة والأنساب والجار ذي القُربى والجار الجنب.
زمن المقابلة في الغالب لا يتعدى نصف الساعة خلاله يتم اختزال ١٨ عامًا وأكثر من التربية والتهذيب والتعليم والتثقيف ففيها تُحدد قوة الشخصية عبر رصد مُحكم للحركات والسكنات والانفعالات وحصيلة الشخص الثقافية بطرح أسئلة ربما جُلبت من كتب " السين جيم ".. تُحدد قدرة المُمتحِن على التعبير الحر عن نفسه وقريته والوضع السياسي الإقليمي والدولي وطبيعة ما يعيش من أحياء ومخلوقات في الجبال والبحار والسماء والقفار.
بقضبان وأسلاك بوابة المقابلة الشائكة التي تطال بارتفاعها عنان السماء تصطدم طموحات من لا معارف له وتتبخر أحلام الكثيرين ممن يملكون قدرات ومهارات ومؤهلات حقيقية فيما يعبُرُ غيرهم إلى الجانب الآخر وهو لا يحوز إلا على وعد قطعه لوالده المسؤول الفلاني والمتنفذ العلاني أو رغبة القائمين على تلك المقابلة في ضمان رضا مسؤولين أعلى مُتحسبين أنه سيطلبون تلك الخدمة من غيرهم يومًا من أيام الله القادمات.
بسبب صمود هذه البوابة المشهود له بالبأس والقوة في وجه رياح الإصلاح تُدفن أحلام الكثيرين فمعيار كالمقابلة قابل للاختراق وغير حاسم ولا يمكنه في الوقت نفسه ضمان أن الشخص الذي تم اختياره لن يفشل على مستوى الأداء العملي.
ما يبعث على الأسى والحزن أن يدخل الشخص المقابلة وهو موقن يقينا لا يقبل الشك أنها مجرد " مسرحية " وأن حضوره لها كعدمه وأن المرغوب فيه أو الأشخاص المستهدفين تم تحديدهم مسبقًا رغم الترتيبات التي أُجريت فيها خطوات الاختبارات والتي تبدو للناظر أنها موضوعية لا غبار عليها.. أن يدخل المنافسة وهو مهزوم من داخله وما ذهابه إليها إلا مجرد " تحصيل حاصل".
لا يعلم الذي يتعهد بتمرير شخص غير مُستحق للحصول على وظيفة غيره الأولى بالحصول عليها أي جريمة يرتكب في حق وطنه وأي إساءة لا تُغتفر يقوم بها وهو يُقصي آخر ربما يقدم للوطن خدمات عالية الجودة..
ألم يأن الأوان بعد لإعادة صياغة المعايير التي يتم من خلالها تقييم المتقدمين للوظائف في القطاعات المختلفة تقيما عادلا يأخذ في الحسبان مصلحة الوطن ويفوت على ضعاف النفوس فرصة فرض أشخاص فاقدي القدرات لنيل وظائف لا يستحقونها؟
آخر نقطة..
ماذا يعني أن نثق في موضوعية " الآلة " ونؤمن أنها الحل الوحيد ليأخذ الإنسان الضعيف حقه رغم كونها صنيعته؟ ألا يعني ذلك أن الضمير الإنساني يحتضر واحتضاره يمهد لسيادة الفوضى ؟ ألا يبدو هذا الوضع خطيرًا وبحاجة إلى تصحيح وإعادة بناء؟