المسرح فن الشفرة
جاءت العبارة السابقة لرولان بارت في سياق ما تشهده الكتابة المسرحية الجديدة على الرُّكح من تحولات ومنعطفات. لا يقتصر التطوّر الحاصل للكتابة على النصّ الدرامي للمسرح بل يمتد الحال إلى المعالجات الدرامية لدى بعض كتّاب السيناريو (قناتا شاهد ونتفليكس) التي يَنهل كاتباتها وكتابها من تحليلات علم النفس البشرية وتناقضاتها نظرًا لما يعتمل في داخلها من أفكار وتساؤلات ويقظات للفكر والذهن وتعارضات للروح، كما استفادوا من علمي الدماغ وبرمجيات الأعصاب اللغوية ليصبّ ذلك التطوّر في بناء أبعاد الشخصية الدرامية ككل.
اهتم رولان بارت بالمسرح، كاهتمامه بالأدب والنقد. وإذا كان بارت يُعد من بين أهم النقاد والقراء الناقدين المتفحصين للأدب واللغة وسبر أغوارها، فهو كذلك مفكر ثوري، ارتكز في مشروعه الثوري على الربط بين مستويات متداخلة، تحرّك فيها من الواقع الاجتماعي والثقافي (ثورة الطلبة في فرنسا-1968م) إلى الاشتغال النقدي الجامعي في بعده الفلسفي، فتمرّس من جهة في النقد البنيوي وكان من المتحمسين للبنيوية في خمسينيات القرن الماضي، ثم تحوّل عن ذلك المسار وصار ناقدا لها عندما أعلن تعديل بعض أفكاره عليها.
الناظر إلى موقع رولان بارت المركزي في الاشتغال النقدي المنفتح على الفوتوغرافيا والتشكيل والسينما والمسرح، يتيح للناظر استيعاب أبعاد التأويلات الكثيرة لمقولة بارت إن المسرح هو فن الشِفرة. وتتصل مقولة بارت بثقافة العرض المسرحي وما يُنجز على الرُّكح من فعل جماعي حيوي قادر على إنتاج العلامات، وعلى توليد مختلف الدَلالات ذات المعاني التاريخية والثقافية والاجتماعية المختلفة التي يستطيع المتلقي تلقيها ومشاركتها مع الآخرين لكونها دَلالات تنطلق من الواقع الاجتماعي الحي وليس الجامد. وتختلف هذه الدَلالات الخِصبة في العرض المسرحي باختلاف المتلقين الآتين من ثقافات وشعوب متباينة. وأبرز اشتغال للعلامة المسرحية ودَلالاتها المختلفة يمكن التمثيل عليها في أعراف الشفرة الاجتماعية برمزية لباس اللون الأبيض في مناسبات بعض الثقافات، فهو يكتسب دلالة الفرح عندما ترتديه العروس، أو يأخذ دلالة الحزن في أثناء العَزاء، حينما ترتديه النساء في بعض البلاد العربية، وكذلك ارتداء القبعة، كما يكتب الدكتور أحمد شرجي (ثقافة العرض المسرحي دراسة سيميولوجية- 2019م) فالقبعة «تحمل مدلولات متعددة، فهي قبعة المهرّج والسيد والشحاذّ. فإذا رفعها المهرج بعد فاصل بهلواني للإضحاك لكي يستجدي بها، تتحول إلى علامة للتسوّل والاستجدَاء، وإذا كانت على رأس المهرّج نفسه ورفعَها احترامًا لسيدةٍ مَا، تصبح عَلامة دَالة على الاحترام».
سيكون لكتاب رولان بارت أحد منطلقات الدارسين الأساسية لتناول مفهوم الشفرة والعلامة في العرض المسرحي، وسيُعد كتابه (درس في السيميولوجيا) وفي بعض الترجمات (المغامرة السيميولوجية) المرجع الأول الذي لا غنى عنه. وينصَب معنى الشفرة واشتغالها حول «أي نظام رمزي يتفق عليه المُرِسل والمستَقبل للدلالة على الأشياء والمعاني، فالشفرة تتكون من النظام الصوتي للكلام المنطوق أو النظام المرئي للكلام المكتوب».
تاريخيًا، وقبل رولان بارت فإن البحث حول الشِفرة إنّما يعود إلى مدرسة براغ في ثلاثينيات القرن الماضي، إذ رأت هذه المدرسة أن كل عمل فني هو في الواقع تطبيق لشفرة جمالية محدَّدة -ومعناها مجموعة من المعايير الفنية المُطلقة أو المجرّدة- وإن كانت مرتبطة في نهاية الأمر بالقيم السائدة في مجتمع من المجتمعات، في مرحلة محدَّدة من مراحل تطوره التاريخي-ص81» فإذا لم يوجد مشترك بين ثقافتين مختلفتين فإن الدَلالة يصعب وجودها، ولهذا أكدت مدرسة براغ على أن للعلامة الفنية مرتكزين، «الأول والأهم هو وجودها الذِّهني المشترك على مستوى الجماعة، والثاني هو وجودها المادي المتجسِّد في العمل الفني».
فالعرض المسرحي استنادا إلى مدرسة براغ يتكون من مجموعة من العلامات المتشابكة لدرجة التعقيد؛ ففي العرض تحضر الموسيقى إلى جانب الرقص، وتحضر الفنون الشعبية إلى جوار الفنون التشكيلية، وتصير لغة الممثل وجسده والعناصر التي يرتديها لغة واحدة ليغدو العرض كُلًا واحدًا متناسقا ومتناغما رغم اتصاله بفنون أخرى. والوضعية الجديدة للعرض المسرحي وجماليته ستتمثل في قدرته على توليد شعرية جديدة مصدرها ليس مصدرها النص الدرامي المسرحي، بل مجموع العلامات المتفاعلة معًا في العرض.
عند هذه النقطة ينبغي التساؤل عن النصّ، وحاجة العرض إليه. وإذا ذهبنا بعيدًا يمكن إثارة العديد من التساؤلات حول النصّ الدرامي. هل هناك حاجة ضرورية إليه في عرض مسرحي علاماتي يمكنه الاستغناء عن نص المؤلف، والاكتفاء بمنجيات سردية ثانوية، وإلى أيّ مدى ممكن للنظريات الضدية للنصّ المسرحي أن تستمر؟ ألم يكن في النداء إلى إعلاء اشتغال الجسد الحُر للممثل وطغيان السينوغرافيا في فضاء العرض المسرحي أن أدى ذلك كله لسحب اللغة والمعنى معًا. ألسنا في حاجة اليوم إلى مراجعة للمفاهيم والمصطلحات المسرحية، لاسيما، في مجال حيوي معاصر يتفاعل مع الواقع الافتراضي على حساب الواقع الاجتماعي، ويرفع من شأن التقنية والذكاء الاصطناعي على حساب عملية حسابية بسيطة تساوي 1+1، ويُعلي من قيمة وسائل التواصل في السوشيال ميديا، على حساب حوار عائلي أو إنساني دافئ؟ هل هناك انعطافة للالتفاف على مقولة نيتشه (لقد قتلنا الله) لترديد أو لتخصيب مقولة جديدة برّاقة هي (لقد قتلنا الإنسان)
لنعد قليلا إلى مدرسة سابقة على البراغيين هي مدرسة الشكلية الروسية. في دعوة الشكليين الروس اتكاء الفن الجديد إلى «الابتكار والابتداع وتكسير القوالب الفنية العامة واللفظية التي غدت لكثرة ترديدها باردة لا طعم لها» أكد الشكليّون على ضرورة الانفتاح على التجارب الجديدة في الفن، فرحبوا في ظل دعوتهم بتوجيهين فنيين هما التركيبية ومنجزاتها في العلم والتكنولوجيا، وبالتَّكعيبية ومنجزها في فن الرسم. يُمكن أن يشير هذا الانفتاح إلى أن الحياة في تقدم مستمر، وأنها لن تقف عند اتجاه واحد بعينه، ومن الواجب على الإنسان أن يخوض غمار التجريب والحداثة. فما عابه الشكليّون في زمنهم على أدبيات متكررة، يخشى الكتّاب اليوم الوقوع فيه، سواء أدركوا ذلك بوعي أم من دون وعي. إن الشِفرة تتجدد بفعل التواصل مع الثقافة والتطور في المعرفة، وقدرة المتلقي على استنباط الدِلالات مهما اختلفت أشكال التلقي من عصر إلى عصر، وكل ذلك يهدف إلى تفكيك ارتباط المسرحي بالنص الأدبي.
هل الاستنتاج أن التطور الحاصل في الكتابة الدرامية لدى فرق المسرح الجادة منها يمكن إرجاعه إلى اكتشافات أو محطات مهمة منها؛ التطور العلمي الهائل في مجال الإلكترونيات والذكاء الاصطناعي، وبحوث بعض النقاد المسرحيين في أطروحات السيميولوجيا، ولجوء المخرج تحت بعض الضغوط إلى تقليص أعداد الممثلين لاستيفاء الشروط في بعض المهرجانات، أو تغير حال المتلقي اجتماعيا وثقافيا؟
إنّ الكثير من الاستسهال الحاصل في الكتابة الدرامية يعود إلى أسباب كثيرة يعرفها العارفون وما قدمته السيميولوجيا من قراءات للنصوص الدرامية رفع من قيمة اشتغال المخرج في العرض المسرحي، ولكن على الرغم من ذلك فما زال سؤال المسرح أو الثقافة المسرحية يثير نقاشا وجدلا بين المسرحيين تارة، وتجار الفن تارة أخرى.
آمنة الربيع باحثة أكاديمية متخصصة في مجال المسرح