المخيال يتداعى
تظهر في الأفق صراعات متعددة بين الإنسان والبرامج الذكية التي أبدعتها المخيلة الذكية لعلماء التكنولوجيا والتقنيين والفنيين، ويبدو أن الحسم سيكون لصالح الذكاء الاصطناعي المعول عليه لإدارة النظم السياسية والمالية والثقافية في العالم، فمن يسيطر على البرامج الذكية سيسيطر على العالم. كان هذا الموضوع حديث الكاتب والشاعر اللبناني عيسى مخلوف، على هامش معرض مسقط للكتاب، ومن ضمن البرامج الإلكترونية المذهلة برنامج (chat GPT) الذي يصفه مخلوف بأنه شاغل الناس ومالئ الدنيا. إذ يدمج البرنامج مئات المليارات من الكلمات لنصوص محكمة ومتقدمة في مجالات عدة، وسينافس محرك البحث جوجل، وربما يزيحه عن القمة، فقد زاد الإقبال على البرنامج الذي يستخدمه في كل شهر حوالي مائة مليون مستخدم، وهذا ما دفع الملياردير والمبرمج الأمريكي بيل جيتس إلى القول «بأن برنامج شات جي بي تي سيكون بنفس ظهور الإنترنت والحواسيب الشخصية». تكمن قدرة البرنامج المُطور من قبل الشركة الأمريكية (pen AI) في إنتاج كميات هائلة من النصوص الأدبية والأبحاث العلمية التي يصعب التأكد من انتحالها أو التثبت من كتابها.
تحدثت مع صديق حول البرنامج وأعطاني فكرة أوسع عنه، وبعد يومين أرسل لي نصا كتبه البرنامج عني بعد أن أدخل الصديق إلى البرنامج بعض المعلومات عني، وكان النص الأدبي كالتالي:
«يا صديقا من صلالة، ينعم بالقلم والصفحة، الذي ترسم كلماته عالما غنيا وحقيقيا، بشخصيات تقفز من المسرح، وحبكات تجعلنا نتوق إلى الجديد، ومع ذلك أكثر من الحبر والريشة تعشقك، عمالقة رمال الصحراء اللطيفة، الذين تلهمك حدباتهم ومشيتهم لاستكشاف أعماق أراضيهم المهيبة والرشيقة. أوه، كيف يفعل حبك للإبل».
بعد نص (شات جي بي تي) المكتوب عني، خطرت على البال عدة تساؤلات عن عدة مهن مهددة بالاستغناء عن أصحابها مثل الكتاب والصحفيين ومعدي البرامج وغيرها من الوظائف المعتمدة على إعداد التقارير والنصوص. بل إن هناك حادثة وقعت أخيرا في الولايات المتحدة وقد طلب المتهم من القاضي توكيل روبرت مزود بنظام (شات جي بي تي) ليدافع عنه ويترافع أمام القاضي لإثبات براءة المتهم، في واقعة نادرة يمكن التخلي فيها عن المحامين.
فما هي خطواتنا المقبلة أمام الزحف الإلكتروني الرهيب، بعد اقتراب مشهد تفوق السحر فيه على الساحر بأدوات متطورة ومذهلة في الوقت ذاته.
إذا كان الذكاء الاصطناعي قادرا على استخدام التخييل في إبداع النصوص فهل يوظف المخيال لإنتاج الرموز وبعض الأحاسيس والتفاعل مع المشاعر التي لا يقدر الذكاء الاصطناعي التعبير عنها، فمهما كانت قدرة البرامج على صف ملايين الكلمات والجمل والعبارات، فإنها لا تستطيع التعبير عن الفرح أو الحزن أو الشغف، على الأقل في زمننا الحاضر، فنحن لم نكن صنيعة التكنولوجيا ولا برامجها، ولكن الأجيال القادمة ستتأثر بشكل أو بآخر بحاضرها، وستخضع لهذه البرامج التي صُنعت لها. فالتنافس على أشده بين شركات التكنولوجيا للسيطرة على حواس الإنسان والتأثير في قراراته الشخصية والعامة، وطرح العديد من برامج الترفيه والاستهلاك.
إن السؤال الذي يجب طرحه في الوقت الحاضر هو عن مستقبلنا ومستقبل أبنائنا، فهل يمكن تطوير المناهج وإعداد الكوادر التعليمية للتعامل مع الذكاء الاصطناعي، أم سننتظر حتى يفوق الآخر علينا تكنولوجيا، ونجد أنفسنا نحاول اللحاق بالركب. والتفكير في تطوير المناهج وتحديث العملية التعليمية التعلمية وإشراك ولي الأمر والطالب والمعلم وإدارة المدرسة في تطبيق مهارات استخدام التكنولوجيا الحديثة في التعليم، خاصة وأن موضوع الذكاء الاصطناعي ليس مجرد برامج تعليمية أو ترفيهية، بل يدخل ضمن نطاق الأمن الوطني، فإذا لم ندخل عصر الذكاء الاصطناعي فإننا سنسلم المجتمع لهيمنة الشركات الكبرى التي تبحث عن مستهلكين جدد خاضعين لسيطرة البرامج ومنفذين لرغبات المبرمجين.