المثقفون وثقافة الشعر

17 أغسطس 2024
17 أغسطس 2024

لا يتوقف الحديث في الأوساط الثقافية عن أزمة كبرى في قراءة الشعر ونقده. الناشرون يحجمون باعتذار عن نشر دواوين الشعر لأن عناوينها تتذيل قائمة المبيعات في كل معارض الكتب بعواصم العالم العربي حيث لا تُجزي حتى تكلفة شحنها. المؤسسات الثقافية مستعدة لتنظيم أمسيات وندوات تناقش الأزمة في الشعر أكثر من ترحيبها بفكرة تنظيم أمسية شعرية لن يحضرها إلا قلة من المهتمين أو الفضوليين في ساعة فراغ، لكأنما الحديث عن أزمة الشعر تبدو أكثر جماهيرية من الشعر نفسه. أكثرُ المتعاطفين تطرفا في القلق والسخرية يدعو لإنشاء محميات للشعر الحقيقي والشعراء الحقيقيين خوفا عليه وعليهم من الانقراض. وبدلا من مراجعة الأزمة من الداخل على أنها مشكلة في قراءة الشعر وكتابته على حد سواء يتفنن بعض الشعراء في الإجابة على السؤال التقليدي عن تراجع جماهيرية الشعر بالقول إن عزلة الشعر وغربته بين القراء ليست نتيجة لمشكلة في حد ذاتها بقدر ما هي سِمة أصيلة من سمات هذا الفن تؤكد على فرادته النخبوية في عصر تتوحش فيه المادة ويشيع فيه الابتذال، فالشعر «يربح في العمق ما يخسر على السطح» على حد تعبير أدونيس.

لعلهم على حق كلهم على حق، بمن فيهم دعاة إنشاء المحميات الشعرية. غير أن الشكوى من تآكل جماهيرية الشعر العربي توحي لمن يسمع التعبير بأن المشكلة تكمن حصرا في الجمهور العام الذي لا يقرأ الشعر؛ أي أن القراء العاديين (التلامذة في المدارس والجامعات، موظفي الوزارات ورجال الأمن والعمَّال في الشركات النفطية والمتقاعدين وسائقي سيارات الأجرة وغيرهم من فئات وشرائح المجتمع) هم الطرف الذي كان يُتوقع منه أن يتجمهر للشعر، بيد أنه ولأسباب كثيرة تخلَّف عن هذا الدور. لكننا، وفي معرض الحديث عن الأزمة ولوم القارئ العادي، قلما نسأل السؤال الأكثر أهمية بنظري في هذا الصدد من توبيخ الجمهور الذي لا يقرأ الشعر أو الذي لا يقرأ بصفة عامة: كيف هو حال الشعر بين مثقفينا؟ هل يقرأ مثقفو اليومَ الشعرَ العربي ويعتنون به كصلب أسياسي من أصلاب هذه الثقافة؟ هل يتمتع الكتَّاب الداخلون إلى باحة الكتابة من أبواب متفرقة بأدنى ذاكرة وذائقة شعرية؟ وأخشى أن يكون السؤال الضروري التالي: هل يقرأ الشعراءُ الشعرَ اليوم؟

«المثقفون» الذين لا يقرأون الشعر ولا يعرفونه ليسوا مجرد ظاهرة من ظواهر خصخصة الحياة الثقافية الجديدة فحسب، بل هم في الوقت نفسه نتاج التربية الأدبية والعلمية، الذاتية أو المؤسسية. فعلى شاكلة من لا يحب قراءة الروايات، هناك من يعترف بوضوح أيضا بأنه لا يقرأ الشعر لأنه لا يُحبه! وفي أفضل الحالات يعترف بأنه لا يحب الشعر لأنه مشغول بقراءة السرد أو الفلسفة اليونانية أو تاريخ الحروب الصليبية، أو ربما لأنه وجد نفسه مهتما فجأة بالاقتصاد السياسي! تقريبا هو نفسه مثلا لا يلعب البيسبول لأنه لا يحبها ولذلك يفضل كرة الطاولة عليها؟! هكذا تقريبا، أليس كذلك؟ وهناك صنف يقرأ الشعر إلا أنه يتعالى على قراءة الشعراء المحليين، وهو أمر غريب لكنه مع ذلك مفهوم بالنسبة لي. أما الصنف الآخر الأغرب هو ذاك الذي لا يقرأ الشعر العربي لأنه يحب الشعر المترجم فقط، ربما نكاية في الوزن والقافية!

لا بدَّ من القول قبل أي شيء بأن القراءة القائمة على الميل الذوقي (أحب ولا أحب) قد تصنع قارئا ذكيا إلا أنها لا تصنع مثقفا. ثم إنه ليس على المثقف المشتغل في أي مجال آخر غير الأدب أن يُحب الشعر، وإن كان لا يحبه فليس عليه أن يكرهه مقابل ذلك وهذا لا يعفيه من قراءته. باعتقادي أن هذه مسألة في غاية البداهة. السؤال هنا ليس سؤال حب أو كراهية لتفرُّعٍ اختياريّ جانبي من فروع المعرفة التي بوسع كاتب ما أن يتجاهلها كقارئ دون أن يخسر الكثير، السؤال هنا عن الأهمية المعرفية للشعر كمكون أساسي للوعي والنفسية العربية.

لا داعي للتذكير مرارا بالمركزية التاريخية لهذا الفن اللغوي المكثف في الثقافة العربية، حيث يحتل الشعر مكانته كثقافة داخل الثقافة، ويعبر عن نفسه بلغةٍ خاصة داخل اللغة العربية. فبإهماله للشعر سيخسر الكاتب أكثر من القارئ العادي مصدرا رئيسا من مصادر الخبرة البشرية، والذي لخَّص وكثَّف لغة علاقة الإنسان بالوجود وحفر أسئلته الأولى عن الغيب والموت والحياة والطبيعة كما دوّن تاريخه في المكان وعاداته وأشجانه. هذا على صعيد الأهمية المعرفية فحسب، والتي أعتقد أنها تعني كثيرا بالنسبة للمثقف النفعي، فضلا عن القيم الجمالية لذاتها في الشعر وطاقته العاطفية.

لا شك أن الشعر كأي فن آخر يتطلب مهارة خاصة في التلقي وذائقة متعددة مرنة تتطور بالقراءة المستمرة والمنفتحة. وغياب ثقافة الشعر هذه لدى شريحة واسعة من المثقفين ينعكس، مضمونا وشكلا، على كتاباتهم ومجالات عملهم الثقافي والإعلامي، خاصة إذا ما امتلك مثقف بلا ثقافة شعرية سلطة تخوله نشر أو رفض نصوص شعرية في مجلة أو دار نشر. أما التجلي الأهم لغياب الثقافة الشعرية فنجده في اللغة المتخشبة الفقيرة التي تُكتب بها كُتب ودراسات ومقالات في مجالات شتى، وهو ما يكشف عن غياب التربية الأدبية و التأسيس اللغوي للكاتب اعتمادا على الشعر والأدب، فاللغة الفقيرة تُفقر الفكرة وتجفف حيويتها وتفقدها والوصول والتواصل، إذ لا يمكن التنظير أو التأسيس للفكرة في الهواء، لأن الفكر يحتاج للغة كي يتجسد عبر الكتابة، واللغة كما نعلم هي أرض الفكر ومنبته.