«الكتب مهمة حتى لأولئك الذين يكرهونها»
كوني قارئة يمكن أن أتحدث عن القراءة في حد ذاتها بلا ملل، أظن أنني أشترك مع كل القراء، في هذا النوع من الإدمان لا في الحديث عن الكتب وموضوعاتها، بل التغني في القراءة ومديحها، ولعل انتشار الكتب حول نشاط القراءة وتاريخها قد يخبرنا الكثير عن هذه العلاقة. هنالك أيقونات رسخت نفسها باستمرار لا في نتاجها الأدبي بالدرجة الأولى، بل في كتابتها عن القراءة أمثال بورخيس، إمبرتو ايكو، وألبرتو مانغويل. حتى أن إيكو لم يكتفِ بالكتابة عن القراءة وعن مكتبته الضخمة، بل تسللت الكتب لحبكات رواياته، وأصبحت لاعبا أساسيا في قصصه.
رواية «الشعلة الخفية للملكة للوانا» وهي آخر إصدارات إيكو، وكنت قد كتبت عنها مقالة مطولة قبل نحو ثلاث سنوات، أقتبس من مقالتي تلك هذا المقطع: «بالنسبة ليامبو في هذه الرواية، ليست الكتبُ طريقا لمعرفة الذات فحسب، بل هي الوسيلة الوحيدة التي بقيت له حتى يتعرف على ماضيه بعد فقدان ذاكرته، فهو لم يفقد ذاكرة الكتب التي قرأها طوال حياته بل يتذكرُ جملا منها، ويقتبسها في محادثاته مع الأشخاص الذين كانوا يشكلون عائلته وأصدقاءه لكنه نسيهم مع ما نسى، ربما لأن يامبو -وكما سيصرحُ لنا في الفصول الأخيرة من الرواية - لم يكن يوما من أيام حياته خارج الكتب، فمنذ اللحظة الأولى التي أدرك فيها إغواء الروح ذاك انقاد إليه، مثلما تقادُ وردة عباد الشمس صوب قرص الشمس!، فعندما كان طفلا - وعاد للمدينة بعد فترة قضاها في الريف وهي فترة الحرب العالمية الثانية - كان يقف أمام كتاب ثمين موصد داخل صندوق زجاجي، يتعذب يامبو؛ لأنه لا يستطيع معرفة اللذة التي يمكن أن تكتنف رحلته مع ذلك الكتاب، فلنلاحظ معا أنه لم يقصد قراءته بل الإطلالة الأولى لقارئ على كتاب يرغب في اقتنائه، فتلك اللحظات بالذات وعدٌ لا يمكن رده، ويظهر خلالها حنينٌ متوهج لعالم موازٍ، وسائده أثيرة، ومجلسه دافئ ومسجى.
شكلت العلاقة مع القراءة على مدى التاريخ معاني مختلفة، وتمثيلات رمزية لعوالم تعكس الخلفية الاجتماعية التي تقف وراءها، حتى امتلاك الكتب دون قراءتها تباينت تفسيراته وطريقة استقباله من الناس مع مرور الأزمان، يتتبع الكاتب فرانك فوريدي وهو عالم في السيسولوجيا المعاني الرابضة وراء هذا الموضوع منذ ما قبل التاريخ وصولا لعالم اليوم، وأحاول هنا طرح أفكاره الأساسية حول الموضوع والتعليق على بعضها.
يبدأ فوريدي بحثه بالإشارة إلى تسكعه في الجادة الخامسة بمدينة نيويورك ذات صباح عام 2014 لتلفت انتباهه طبعات فاخرة لمجموعة من الكتب، وكان قد شاع في معظم دور النشر العريقة إصدارها لكتب بأغلفة جميلة، غالبا لا تكون تلك الطبعة التي قد يحفر العنوان في غلافها المقوى بالذهب متاحة لكي تُقرأ، بل تُقتنى لكي توضع في المكتبات الشخصية أو واجهات المكاتب، خصوصا الروايات الكلاسيكية التي يتعلق بها القراء على مدى التاريخ، فيهرعون لاقتناء طبعات عديدة منها قد يكون بعضها من هذه الطبعات الثمينة، كانت تلك الكتب التي وقع نظر فوريدي عليها ضمن سلسلة Leatherbound Classic، وهي كما سيخبره الموظف هناك قد تساعده على تزيين مكتبته، فكر فوريدي كثيرا بعد ذلك فيما تعنيه الكتب كرمز للتحقق على الصعيد الثقافي والاجتماعي، فهو وعلى سبيل المثال في معظم اللقاءات التي تجرى معه، يُطلب منه أن يقف بجانب مكتبته، أو أن يدّعي استلاله كتابا منها مثلا؛ وكأن ذلك يضفي شرعية على ما سيقوله في تلك المقابلات.
وتبدأ القصة التي يتتبعها فوريدي منذ اختراع الكتابة في بلاد ما بين النهرين حوالي 3500 ق.م والكتابات الهيروغليفية في مصر حوالي عام 3150 ق.م التي تمتع فيها القارئ الجاد بنوع من الامتياز والمكانة الثقافية العالية؛ إذ كانت الألواح الطينية المنقوشة بالعلامات والإشارات تمثل قطعا نفيسة إن لم تكن مقدسة وعُدّ فك رموز هذه الألواح دليلا على قوة سحرية وخبرة روحانية خاصة، في بلاد النهرين القديمة مثلاً، كانت هناك مجموعة صغيرة من الكتبة ممن يستطيعون فك سر رموز الألواح المسمارية، ولذلك حظي مترجم هذه الرموز على مكانة رفيعة آنذاك، إذن قد نعد هذه من أوائل الإشارات على القوة والامتياز الذي تمتع بهما القارئ على مرور التاريخ.
حتى يومنا هذا يعد القراء أنفسهم في الطريق لاكتساب هذا النوع من الخبرة أيضا، بل إننا نميل كقراء لتقديم هوياتنا بصفتنا قراء لنوع محدد من الكتب على سبيل المثال، وكأن كتبنا المفضلة قد تقول من نحن، عوضا عن تقديم سماتنا الشخصية بشكل مباشر. نقول مثلا لا يمكن أن أرتبط بشخص يقرأ جوردي بيترسون، أو يحب ويسوغ أطروحات آين راند وأمثلة أخرى عديدة تختلف باختلافنا.
ملك القدس في القرن السابع قبل الميلاد، استخدم كتاب العهد القديم الذي غلف لاحقا بلفائف كتبها علماء الدين في إضفاء الشرعية على إرثه ومطالبته بالأرض آنذاك، فيما عنت الكتب في العصر الروماني بدءا من القرن الثاني قبل الميلاد زينة أساسية للمنازل الثرية، بل وعلامة حاسمة فيما يتعلق بمدى ثراء أصحابها، حتى أنه وفي الوقت نفسه، بدأت ظاهرة «الخطابة» أمام العامة التي عُدت آنذاك وسيلة للتسويق للذات وتحقيق نوع من المجد الشخصي؛ مما دفع الأوروبيين في مراحل لاحقة للحرص على امتلاك مكتبات شخصية بالرغم من العوز والفقر الذي عاشوا فيه؛ لأن المكتبة طريق مضمون لاكتساب السمعة الطيبة وهكذا، حتى مع بدايات التبادل التجاري فيما أطلق عليه ـــ عصر النهضة ــ مع تحفظي على هذا الاسم، كانت الكتب والقراءة بمثابة رموز تُتداول للدلالة على وجاهة من نوع ما، أو معانٍ مبطنة بمجرد امتلاك هذه المكتبات.
ومع حلول القرنين الرابع عشر والخامس عشر ظهر نموذج مالك الكتب المعتز بنفسه حتى لو اقتصر ذلك على جمعها فحسب، أحد أبرز ملاك الكتب آنذاك كان ريتشارد دي بوري الذي كتب مقالا عن روائع الأدب عام 1345 وادعى كاتب سيرته أن الكتب كانت تحيط به في كل مكان حتى في حجرة نومه، وكان من الصعب أن تقف أو تتحرك في بيته، دون أن تتعثر بها، إذ إن شهيته لجمع الكتب متطرفة، مما دعا لانتقاده وهجائه لكنه قال: إن حبه للكتب وجمعها، عوضه عن كل الأشياء الأخرى في هذا العالم، وكتب كتابا ليفند تهمة «الإفراط» في اقتناء الكتب، راغبا في أن يستطيع شغفه ذاك في أن يصبح مفهوما ومعترفا به. وفي هذه الفترة الزمنية نفسها عُدّ القراء وجامعو الكتب حمقى؛ لأن عالم لاهوت يدعى سبيستيان برانت كان قد وصفهم بذلك في كتابه «سفينة الحمقى». ولم تعد القراءة لمكانتها في اكتشاف الذات وامتلاك رؤى وخبرات خاصة إلا مع القرن السادس عشر.
خلال القرون التالية سيصبح من الشائع الافتتان ببورتريه لدانتي مستغرقا في قراءة كتاب من خلال لوحة Allegorical Portrait of Dante إذ تصور لنا دانتي كمنجز ثقافي له مكانته العالية. أما مع حلول القرن الثامن عشر، فقد سعى المثقفون لامتلاك نوع من الامتياز بينهم وبين من عدّوهم مثقفين أقل ثقافة منهم. لقد بدأ مدح القراء البارعين. وفي عام 1903 عدّت إديث وارتون في مقالها «The Vice of Reading» أن القراءة فن لا يمكن اكتسابه، فهي إما أن تكون فطرية أو لا يمكن أن تتحقق على الإطلاق!
أما في القرن العشرين فكانت القراءة قد كرست نفسها كعلامة على الرفعة. حتى مع استمرار ذلك الهاجس في التفريق بين القارئ العادي والقارئ «الحقيقي» -هل يمكن استخدام هذه الكلمة هنا؟ لستُ واثقة من ذلك-، عُدّ الأطفال القراء دليلا على كفاءة الوالدين وتفوقهم الأخلاقي. لم يتغير هذا كثيرا في قرننا الحالي، حتى مع دخول التكنولوجيا إلى حياتنا، على عكس ما قد يتصوره الكثيرون، وجزء من هذا يعود لإصرار العاملين في قطاع صناعة الكتب أو الشغوفين به على قيمة الكتاب المطبوع في دفاع لا عن الكتب فحسب بل عن المنح التي يقدمها ذلك الكائن المادي الذي نقلبه في أيدينا في الأماكن العامة، ونمتلكه في بيوتنا، فالكتب الورقية تظهر ذوقنا واختياراتنا بسرعة كبيرة بمجرد أن يقع عليها نظر الآخرين، وهي بذلك قد تكون مصدرا للفخر بينما لا يمكن للكتب الإلكترونية أن تحقق هذا حتى يومنا هذا.
كثيرا ما نشاهد الديكورات التي تعتمد على الكتب لتضفي نوعا من الصرامة والجدية على المكان، وهناك شركات تقدم اليوم خدمات تصميم مكتبة تناسب شخصيتك والمكان الذي تسكن فيه، بل تعدك بترتيب الكتب إما بناء على لون أغلفتها أو موضوعاتها أو حجمها أو طولها وغيرها من التقليعات، وكل ذلك في سبيل أن يبدو مظهر مكتبتك عظيما وعاكسا لوجودك.
إن المكتبة والقراءة تعني - حتى بالنسبة لعالم يدعي البعد الكلي عن الروح - مظهرا للذكاء وامتلاك قدرات قد تكون خارقة. أليس كذلك؟
* من وصف لمقالة Bookish fools للكاتب فرانك فوريدي.