الفنان سعد الفرج وطاقة التراجيكوميديا الحرّة «1-2»
بمناسبة تكريم الفنان القدير سعد الفرج مؤخرًا في جامعة الكويت، وفي مهرجان المسرح الكويتي الذي عُقد خلال الفترة الزمنية من 28 فبراير إلى 8 مارس 2024م، أعود إلى تذكر بعض المحطات التي استوقفتني في مسيرة هذا الفنان المبدع.
الناظر إلى مسيرة الفنان الكويتي القدير سعد الفرج -بارك الله في عمره- يستوقفه العديد من المحطات والمسارات التي مرّ بها، وتنتابه المشاعر المختلفة. إن كل فنان خبير في حرفته يستطيع أن يتعايش مع الفكرة التي كوّنها عن الشخصية الفنية التي سيؤديها، سواء أمام شاشة التلفزيون، أو على خشبة المسرح. ويصير فعل «المعايشة» مع تراكم الخبرات مدخلا يمكّن الممثل من الصعود إلى الاحتراف، فنرى الشخصية الفنية أمامنا تؤدي دورا في فن الملهاة أو المأساة، قادرة على أن تضعنا أمام التفريق غير المنظور بين البكاء والضحك، أو المأساة والكوميديا.
يعد سعد الفرج من الفنانين القلائل جدا في الخليج الذين استطاعوا أن يجعلوا للتراجيكوميديا صنعة وحنكة ودهاء وعاطفة؛ يعود ذلك لاعتبارات كثيرة، منها تكوينية في مرحلة التأسيس والدراسة، ومهنية تتعلق بالعمل في مجالي الفن والإعلام. وللتدليل على قليل من ذلك التأسيس أو التكوين المتصل بهذه الورقة أقتطفُ من محرك البحث جوجل هذه المقاطع لمسيرته الفنية بتصرف:
- «عندما قدمه المخرج المسرحي الراحل (زكي طليمات) في عام 1961م؛ للإشراف على المسرح العربي في الكويت، اُخْتِير مع مجموعةٍ من الشباب لتجربة أداء، واكتشفه من خلال مسرحية (صقر قريش) التي عُرضت في ثانوية الشيوخ، وتعد بداية انطلاقته.
-تسلّمه في 1962م منصب رئيس قسم الدراما في تلفزيون الكويت حتى عام 1984م.
- تلقى أولى دوراته في مصر في عام 1965، وعمل مساعد مخرج متدرّبا مع المخرج الراحل (نور الدمرداش) والمخرجة (علوية زكي).
-العمل مساعد مخرج في مسرحية الأطفال (الملك إكس) في عام 1973م.
-حصوله على دورة في الإخراج والإنتاج التلفزيوني من معهد الإذاعة البريطانية BBC، وإرساله بعد عامين في بعثة دراسية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ودرس فيها حتى عام 1974، حيث حصل على بكالوريوس في التمثيل والإخراج المسرحي».
والمتابع اليوم لأعماله الفنية في المسرح والتلفزيون وعلى المنصات الفضائية على سبيل المثال لا الحصر المسلسلات: (مجموعة إنسان-2012)، و(توالي الليل- 2013م) و(تورا بورا- 2015م)، و(لقيت روحي- 2016م)، و(سدرة- 2019م) و(محمد علي رود- 2020م)، و(سبعة أبواب- 2020م)، و(مطر صيف- 2021م)،
يمكنه ملاحظة وجود طاقة التراجيكوميديا الحرّة الهائلة.
أولى مسارات التعرف على الفنان سعد الفرج كانت في مرحلة الشباب حيث زمن تشكُّل الوعي بالثقافة والفن في مجتمعات الخليج. أتذكر عندما فتحنا أعيننا على شاشة التلفزيون العماني الملون آنذاك في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، شاهدناه في مسلسل (درب الزلق-1977م) للمؤلف عبدالأمير التركي، والمخرج حمدي فريد. كانت الكويت قد بدأت تشق طريقها نحو استنبات الفنون غير التقليدية في الخليج؛ من تلفزيون وإذاعة؛ لأنّ المسرح كان قد سبقهما بزمن.
ما تزال شخصية (سعد بن عاقول) التي قدمها الفنان سعد الفرج في المسلسل حاضرة في الذاكرة؛ لأنها كما أعتقد قد شكّلت باكورة معرفتنا بالفن التلفزيوني عموما، وبالفنان سعد الفرج على وجه الخصوص. إذّ ستظل اللازمة الصوتية التي كان يلفظ بها بعض كلماته، أو حركاته النابعة في تكوين شخصية إنسان ضعيف لا قرار له، مِن النماذج التي تستطيع أن تَزرع في المتلقي حضورا، وتخلق تعاطفا من نوع خاص؛ فأسلوب تقديمها ظل من لوازم الشخصية لديه، يَحفظها في مخزنه الخاص ويحافظ عليها، وعند استعداده لدور جديد، يَلجأ إلى الذاكرة الانفعالية، فيستخرج من مخزنه ما يحتاجه ليثري الدور الجديد الذي سيؤديه. وفي كل أداء هناك إضافة تزيدُ الدور جمالًا فارقًا، لهذا استقرت شخصية الضعيف المُسالم، والعاشق الولهان على السطح، في مكان واحد لا يتغير: القلب.
إذًا، سار سعد الفرج على درب الزلق ينبش بشخصية الإنسان الطيب في دهاليز الحياة الفنية ومزالقها. تلك الحياة التي شكلّها دراميا المؤلف النابه عبدالأمير التركي والمخرج المغامر حمدي فريد، حينما التفتا إلى تقديم عمل فنيِّ اجتماعي كوميدي يناقش سرعة تبدّل حياة مجتمع أهل الكويت، والطموح الفردي لشخصية (حسينوه) بالصعود إلى تحقيق أعلى الممكنات وأضخم المكاسب. وإذا كان العمل (درب الزلق) ناقش حينذاك قضية التثمين في الكويت وانعكاسها على المجتمع، فإن تبعات المتغيرات الاقتصادية وتأثيراتها على الأسرة الخليجية امتدت إلى مجتمعات الخليج الآخذة في التشكّل والنمو جميعها بلا رحمة أو هوادة.
إنّ سعد الفرج في شخصية الإنسان الطيب، العاطفي في مسلسل (درب الزلق)، لا تتقاطع مع شخصية سابقة عليها زمنيًّا قدّمها في مسرحية (الكويت سنة 2000) التي أنتجت في عام 1966م، وناقشت المسرحية قضية غاية في الأهمية تتمحور حول انتهاء زمن النفط. فهل تساءلنا في يوم ما، أن النفط قد ينتهي وينضب؟! إن الفارق الفني ما بين الزمنين إحدى عشرة سنة، لا شك، أن الفرج قد كرسه في تكوين Character وابتداعه. فهو لم يبذل جهدًا في تغيير نبرة الصوت في (درب الزلق)، لكنه على صعيد لغة الجسد في مسرحية (الكويت سنة 2000) كان ذلك التكوين واضحًا.
إن ما استوقفني أيضا، في مسارات الفنان سعد الفرج هي ظاهرة التنوع الثقافي والفني الدرامي. فعلى صعيد التأليف، تشير المراجع إلى أن سعد الفرج أوّل من ألَّف في الكويت نصًّا مسرحيا مكتوبا للمسرح الكويتي باللهجة المحليّة الكويتية، وأنه رائد المسرح السياسي في الخليج. ولفهم أسباب التفات الفرج إلى تأليف مسرحية بغير اللغة العربية الفصحى، علينا العودة إلى وفادة زكي طليمات إلى الكويت في عام 1958م لتطوير المسرح فيها. لقد أعادتني هذه النقطة إلى اشتغالي البحثي في عام 2012م حول تجليات المسرح السياسي في مجتمعات الخليج، في كتاب صدر بعد ذلك بعنوان: «الرؤية السياسية في المسرح الخليجي- دراسة نصّيّة» وحول هذه الجزئية يُمكن القول باطمئنان إن المسرح الخليجي وتطوره في مجتمعات الخليج العربي قد بدأ على أيدي المؤسسين والرعيل الأول الذين أخذوا على عاتقهم مهمة تثوير وتنوير المجتمعات التقليدية وتطويرها. ويُحسب لسعد الفرج أنه كان من بين هذا الرعيل المؤسس والأخذ على عاتقهم إدارة هذه الوظيفة الحيوية بامتياز.
لا شك، أن الظروف التي حفّت بالممارسة المسرحية في دول مجلس التعاون، متشابهة إلى حد كبير، وأن ظهور المؤلف للمسرح في ذلك الوقت -من بينها تجربة سعد الفرج- تستحق التحليل. استطاع سعد الفرج التحرك بنصه في الكويت بين دوائر ثلاث أجدها ذات ملامحَ مشتركة في الخليج؛ أولى هذه الدوائر (دائرة التأثيل)، التي بدأت في الكويت منذ الأربعينيات وحتى أواخر العقد السابع من القرن الماضي. وثانيها: (دائرة مسرح الوثائق والبيانات المسرحية)، التي انطلقت مع وفادة (زكي طليمات) إلى الكويت. وثالثها: (دائرة مسارح الفرق الأهلية والجمعيات والمهرجانات المسرحية الخليجية، وتكوين مراكز الدراسات المسرحية)، حيث تمتد إلى يومنا هذا.