الفكر ما بين التحجر والتحلل
ارتبط مفهوم العصف الذهني المرادف لمصطلح الإطلاق الحر الفذ للأفكار الوفيرة بالعملية الإبداعية، فلا تكاد تخلو أي عملية إبداعية ابتكارية أو لقاءات اتخاذ القرارات الكبيرة المصيرية الحاسمة، والبحث عن الحلول من تلك الجلسات التي يتم فيها توليد الأفكار على نحو غزير، لتكون كل الحلول الابتكارية قد سبقها سيل من تلك الأفكار الكثيرة، التي تعددت حولها التسميات المتعلقة بآلية تنفيذها والإفصاح عنها، ليكون المتعارف عليه، والسائد بين الأوساط التعليمية عامة والابتكارية خاصة بتقنية العصف الذهني.
منذ أن ظهر المصطلح كأول مرة في كتاب لأليكس أوزبورن، وما تبعها من تسلسل للكتابات حول أهميتها وآلية تنفيذها، لتتوسط كل الاجتماعات المهمة أو تتقدم كل الاكتشافات والابتكارات اللاحقة، فتنوع الوصف وإسهاب المفكرين في تحليله إلى أركانه وضوابطه وأنواعه.
تم نقله إلينا على أنه توليد قائمة الأفكار اللانهائية بطريقة عشوائية، ليتم تنظيمها لاحقا على نحو فردي أو جماعي، للوصول إلى المستوى الإبداعي.
ليتراوح ذلك السيل من الأفكار ما بين كونها كمًا غزيرًا أو أنه يعنى بتلك الأفكار النوعية، ولما كان أصل العلم كالماء فلا بد أن يتدفق، لا يؤخذ هكذا ويتم تجميده، وتثبيته على مستوى واحد بل عليه أن يتنامى على نحو تراكمي، يستند على بعضه البعض البعض، ويتفرع كجذور الأشجار المعمرة، ويستقي كل جانب منه من المجالات الأخرى، فإنه لمن الضروري أن تعاد قراءة هذا المصطلح على نحو يتنامى فيه العلم، ولا يكون ساكنًا وثابتًا على افتراضات معينة تم تدوينها من سنوات طويلة مضت.
بل إنه رحلة ما بين التحجر والتحلل، ذلك التحجر الذي يكون على نحو تغير بطيء في المواد الأولية، كرحلة تكلّس الأملاح واندماجها مع عناصر الأرض الأخرى، ليصبح ذا قوام مادي ملموس صلب متين، يشكل كيانًا مستقلًا بذاته يصعب تفكيكه بعدها، إلا بارتجاع عكسي لتحليله إلى مواده الخام الأولية، وبمدة زمنية لا تقل عن رحلة التحجر، أو ربما تزيد.
ليقابل تلك العملية مرحلة تحليلية للكيانات العظيمة إلى عناصره الأبسط، وبقياس ذلك على تقنية العصف الذهني، فإنه بحاجة إلى تلك الرحلة ما بين التحجر والتحلل، فنحن بحاجة ماسة إلى تحليل ما تلقيناه، ثم محاولة بنائه من جديد للوصول إلى تحجّر ثابت نستند عليه بكل ثقة وعلى نحو أبدي.
وبالعودة إلى الجذور البعيدة، وإلى ما هو أبعد من إطلاق الأفكار، فإن الطلاقة الفكرية في أصل الأمر هي عبارة عن إطلاق لتلك الحرية الفكرية، فكلما تمتع الفرد بحرية فكرية، وتدرب على التعبير عنه مع تلاشي القمع والكبت، صار أقدر على توليد الأفكار، فيظل عنصر الحرية بحاجة منا إلى دعم أكبر، وثقة مدعومة بيقين تام من أن النفس الإنسانية بأفكارها قادرة على أن تفكر على نحو تلقائي وتتوجه إلى مسارات تخدم الإنسانية.
كما أن ممارسة جميع الأنشطة أو تبني نمط حياتي يتمتع بالانطلاقة، والحرية الفكرية في التعبير عن الرأي وحرية اعتماد اختياراتك الخاصة وعدم تبني الأفكار الواردة؛ إلا بتمحيص كبير ذلك من شأنه أن يعزز من قدرتك على التمتع بحرية فكرية، يصعب معها الانصياع للأفكار البالية، فتكون قادرا بذلك على طرح الأفكار الجديدة الوفيرة.
قمع الأفكار كالمطبات والحواجز والاصطدامات تعيق حركة الأفكار، هذا وإن لم تتوقف أصلا بعد أن يصيبها الإرباك، فيصبح عاجزا بعدها من اتخاذ القرارات، فتكون حياته سلسلة من تبني أفكار الغير، فتلك الاصطدامات في الأفكار والنقد والمطالبات بأن تصمت منذ أن كنت صغيرا؛ يولّد لديك شعورا بأنك لا بد بأن تحتفظ برأيك الخاص في داخلك، وأن تقول فقط رأيا ينسجم مع التوجه الجمعي، إلا أنه قد تكون الفكرة الملتهبة في داخلك ذات جانب منطقي صحيح، لا يمكن إغفاله أبدًا، بل هي فكرة في حقيقتها تحمل نقلة فكرية كبيرة، وذلك القمع أيًا كان نوعه سيجبرك شيئا فشيئا مع مرور الأيام والسنوات على تهميش رأيك، لتكون بعدها حلقات العصف الذهني منهكة فكريا، لتوائم أفكارك مع أفكار الجماعة، وتخبئ تلك الميزة في داخلك، هذا بالإضافة إلى أن عمليات القمع المتكررة ستشكل في ذهنك حاجزًا وهميًا، غير مرئي قوي إلى درجة يمكنك من الطلاقة في توليد تلك الأفكار.
تتدفق الأفكار ولا بدّ أن تكون كانسيابية الكون من حولنا، يسير بالتوازي مع الشعور بالراحة، بدون انزعاج تشعر فيه بأن الأفكار ازدحمت في رأسك وغير قادر على إخراجها، فلا بدّ أن تكون عملية العصف الذهني يسير بالتوازي مع شعورك بالراحة، ولا ريب أن تكون فترة الراحة ركنا لا يستهان به في العملية الإبداعية.
إذا ما صاحب عملية التفكير شعورا بالانزعاج من المجهود الذهني، فإن ذلك سيعيق من عملية استرسال الأفكار، وأن بدا أن تصنع الأفكار الفذّة إلا أنها في المقابل ستولد شعورا بالانزعاج يعيق التدفق، أو أن تلك المرحلة التي تصل فيها حالات التركيز القصوى، قد تتبعها حالات سبات فكري يُفقدك المرونة في التفكير، والتوقد الذهني الآني التلقائي.
ولأن الأمر يحمل قطبان ما بين توليد الأفكار براحة واسترسال، وما بين الجهد الذهني بتركيز طاقة عالٍ، وما يندرج أسفل كل منها من مساوئ ومميزات، فكما أن التفكير التسلسلي للأفكار يعطينا أفكارًا ذات نمط تتابعي هادئ، قد تصل إليه مع مزيد من التوجيه إلى حلول جديدة بأفكار إبداعية، إلا أن التركيز الذهني ذات الجهد العالي يحقق لنا الطفرات الفكرية التي تختصر المسافات.
وأن الوسطية لا تتحقق سوى بالمرور التدريجي، بسلاسة من نقطة الانطلاق إلى نهاية الوصول، مع تجميع عالي الكثافة والعدد لكل تلك الأفكار المشاهدة خلال الرحلة، فيكون الأمر أشبه بالاستسلام مع تيّار الريح بداية الأمر، ليتبعها بعدها عملية السير عكس التيار لتنفيذ الأفكار، ليعقد بذلك صلحا من تلك التيارات طوعا، بدون أن تغمره ليكون بعدها قادرا على التجديف للوصول إلى ساحل الأمان محملًا بالفكرة.
وبذلك يمكننا القول بأن العصف الذهني هو رحلة نقطة بداية ونهاية، ومحطات عبور قد تطيل الرحلة أو تختصرها أو أنها تزودها بالوقود، كقالب عام تسير عليه، ليتم تنظيم الرحلة على نحو يتلاءم مع الهدف المنشود، والمجالات التي يتم طرحها، بدون أن تؤخذ تلك القوالب جاهزة، ويتم تجميدها بلا أي تعديلات تناسب الموقف والهدف، وإرفاقها مع نموذج آلية.
وكموجّه دقيق فإن تصميم تساؤلات متنوعة سيوسع من دائرة الأفكار المضافة، والتي ستغذي بعضها البعض، وتكون داعمة لبناء نسيج معرفي مثير، وبذلك فإن عقد جلسة عصف؛ يعني بحاجة إلى مواءمة وتوجيه واستناد، على نقطة انطلاق ووصول ودعائم وإرشادات من تساؤلات توجيهية.
ليكون بذلك العصف الذهني رحلة توليد الأفكار، أو أنه مرادف للنماذج التالية التي تتبع خط سير الأفكار المتتابعة، وفيها توجيه أكبر للأفكار، أو هو توسعة لدائرة الأفكار الرئيسية، أو السؤال ليلامس سقف الإجابة أو حتى محاولة الاقتراب منه، أو أنه عملية فلترة للأفكار الكثيرة من حولنا والموجودة في كل مكان، ومهما بدا بعدها إلا أنها على اتصال خفي بالموضوع، أو كعلم يرفرف عاليا لتنظم إليه منظمات أخرى ليستقي من كل العلوم الأخرى.