الفرح بـ «لا يذكرون في مجاز» -1-
تم أول اشتباك بيني وبين «لا يذكرون في مجاز» للكاتبة هدى حمد، في عنوانها، إذ ظننتُ أول الأمر أن المجاز يعني هنا ذلك الأسلوب البلاغي الذي يقصد به «صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى مرجوح بقرينة» وبهذا فقد تعلق قلبي بأولئك الذين لا يخطرون حتى تلميحًا، في إمحاء لوجودهم، وفي طمرهم داخل العدم، لكنني ومع بداية القراءة تبينت ضلال حدسي، فمجاز هنا قرية صغيرة، وهي بذلك تكون شيئًا، وجودًا حاضرًا وقائمًا بذاته، وإن كان يعكسُ ما تأملته، في مفارقة تنمُ عن حذق الكاتبة -إن كان مشروعًا لي أن أحكم-، فمجاز مرتبطة فعلًا بالنسيان الخالص، بأبطالها المنسيين والمنفيين وبوجودها الشبحي داخل عزلتها المطلقة ذلك ما أطلقت عليه الكاتبة: «الطبقة الهلامية الشفافة التي تقع كحاجز بين عالمين». طبقة هلامية لفت هذه القرية وقاطنيها.
أما وجه الاشتباك التالي فكان في علاقتي مع بثنة الثائبة، لا وجه للشبه بيني وبين بثنة الثائبة في شجاعتها وفتنتها، ولكن في اغترابها، فها هي لا تستطيع الخروج من هذا المكان الغريب مهما حاولت، ولا تستطيع العيش فيه أيضًا تكتب هدى على لسانها: «توقَّفت الثيران شديدة الهزال عن عملها، ونظر لي بخوفٍ مفرطٍ أولئك الأطفال الذين تهدَّلت دشاديشهم فوق مناكبهم، تاركين جيوبها العلويَّة مفتوحةً لتكشف عن عظام أقفاصهم الصدريَّة البائنة خلف طبقة الجلد الشفيفة، سال مخاط بعضهم، وبعضهم الآخر عضَّ سبَّابته ارتباكًا.. كان لي وجه أوَّل امرأةٍ غريبة تدخل مجاز!» فتدخل بثنة الثائبة بملابسها ذات الألوان المحايدة، وعندما تريد الهرب من قبضة سيد الحصن، تقول إن لها حبيبًا هناك في الخارج.
تصر هذه القطعة الأدبية التي سحرتني، على علاج كل شيء بالحب، فجميع أبطالها مسرنمون، تطاردهم الأصوات الغريبة، واحد يحلّق للسماء ويحب الثريا «مجموعة النجوم» ويفتته عشقه لها، وآخر يتعلق بعيون ثوره «الخشن» لاجئًا للحب الصافي فيهما، والفتاة الكبرى الجائعة ابنة حارسة النذور، يقرأ لها الصوت الهامس ما سيجعل الجوع أمرًا ممكنًا في رحلة ضمورها وموتها. ففي رواية «لا يذكرون في مجاز»: «عين المحب التي لا تخفى عليه خافية تكشف السر» على الدوام.
تختلف العزلة التي تعيش فيها «مجاز» عن العزلة التي تتعامل معها الأعمال الأدبية في العادة، ففي رواية ثلج للتركي أورهان باموق، وبفعل من العاصفة الثلجية يحاصر الناس في قرية قارص، وهناك يحدث الصراع جراء العزلة المفروضة قسرًا على تلك المقاطعة.
أما في رواية كوبو آبي «امرأة في الرمال» فإن الناس يقضون حياتهم في المدينة وهم يجرفون الكثبان الرملية وإلا سيقتلون، وباستخدام هذا الضغط الذي يعدُ وحدة ديستوبية تتحرك شخصيات القصة نحو مصائرها.
ما يميز عزلة مجاز، أنها تبدو العالم كاملًا بالنسبة لقاطنيها، فلا شيء أبعد عنها، غير جبل الغائب الذي يختفي فيه المنسيون، وهنا يغيب أفق الانتظار، فلا يعود من شيء يُترقب عدا الموت والفناء.
ذلك أن هذه العزلة لا يبدو أنها تقابلُ شيئًا آخر وأعني هنا «مضادها» إنها أصيلة وسخية أو فلنقل نقية تمامًا، إنها المعرفة الوحيدة عن العالم والعيش فيه، وبهذا فإن كل العمل يبدو مثل نشيد جنائزي طويل، تدوم فيه الحياة الكاملة المكتفية بنفسها والتي يبدو أن شيئًا ما سلبها القدرة على التفكير في غير موقعها. أما الفصول التي تلهث فيها الكاتبة صاحبة الكنبة الصفراء، فإنها الحياة الأوسعُ، حيث يبدو أن انفراجة ما أنقذت الكاتبة من مجاز ومصيرها.
ولننظر لكل تلك الأجساد واللمسات الحاضرة في الرواية، مثل الفلج الأسود والحصن والعين المرة والسفرجلة، وسيحان الحليب الدافئ، البطانية الدافئة، واشتباك الثيران، وتمديد رأس الخروف تحت ساقيّ الشاغي، وولادة القمل في الشعر يتبعها رغبة في الحكاك.
وأهالي مجاز الذين «ترمش أعينهم أكثر من المعتاد، الشفاه تتحرك بسرعة ثم تبطئ وتبطئ إلى أن يختفي الكلام» والديكة الجائعة التي تعلن قدوم الصباح والشراج العطشى جميعها تجسد فكرة هنري لوفيفر بأن «الحقائق المجردة للفضاء الاجتماعي تتجسد كواقع مادي، لأنها مفروضة على واقع الحواس والأجساد والرغبات فتسقطُ نفسها وتصبح منقوشة هناك بل وتبدأ في عملية إنتاج الفضاء نفسه»، إذن الموت وطقسية العزلة الكثيفة هي ما يوشمُ على الحركة والسكون في مجاز.
يكتب ستين بولتز موسلوند في دراسة له بعنوان The Presence of Place in Literature - with a Few Examples from Virginia Woolf أن ساعة بيج بن التي تدق على مدار اليوم طوال القصة في رواية السيدة دالاوي لفرجينيا وولف لها وظيفة علامة اجتماعية وزمنية إذ أنها بمثابة ترتيب زمني يُوجد تنسيقًا زمنيًا مجردًا للعالم بالإضافة لاتصال زمني بين الشخصيات.
وبهذا فإن الشخصيات تصبح فجأة منغمسة في جسدية المكان: صوت بيج بن يهتز عبر الفضاء - الجميع وكل شيء محاط بالصوت أو ينجذب لهذا العالم الرنان الآن، في مساحة الصوت هذه. وهذا ما تفعله هدى بحياكتها الدقيقة لكل تفاصيل القصة في مجاز، إنها بوعي وحساسية شديدة تستخدم السحر من ناحية ومن ناحية أخرى «الحكاية والولع بها» للتوكيد على ما تفرضه العزلة والموت على هذه القرية المنقطعة عن كل شيء.
وبهذا فإن شيئًا لا يوقف الرمة عن التقدم لنهش ما تلقاه أمامها وتصفيته عدا الكنبة الصفراء، عدا الفن والحلم والكتابة.