العلم الحقيقي والعلم الزائف..
تنشأ العلوم من الحاجة أو الطموح، فمن الحاجة إلى دفع الضرر أو الشفاء من مرض أو مصيبة أو الارتقاء فـي الحياة الاقتصادية والهروب من براثن الحاجة والفاقة، إلى الرغبة فـي تحقيق الأهداف التي تبدو بعيدة المنال، أو خيالية من الأساس. فالحديث عبر قطعة معدنية، أو ركوب «حمار معدني» يطوي الطرق والمسافات طيا حثيثا، أو أن الحمار المعدني ذاته يستطيع الطيران! كلها ستبدو خرافات أو دجلا وشعوذة إلى زمن ليس ببعيد من عمر البشرية الفتية، بل سيتهم قائلها بأنه مجنون لا يُرجى منه خير. بين هذا وذاك، لم تتبين البشرية الخيط الأبيض من الخيط الأسود من العلم، فظل الشيء متأرجحا بين اعتباره علميا أو أنه محض شعوذة تتزيا بزي العلم الصحيح والمعرفة النافعة وهو على غير حقيقته وطبيعته.
متى نقول عن الشيء إنه علمي إذن؟ إننا نطلق على الشيء لفظة علمي إذا كان نتاجا لدراسة يتم بها جمع البيانات بشكل منهجي صارم، وتتكرر النتيجة ذاتها الحاصلة من هذه العملية. أما الشعوذة، فهي ادعاء الحصول على النتيجة النافعة، فـي حين أنها محض خيالات وأوهام قد تتحقق وفقا للحالة العقلية والتهيؤات النفسية للواقع تحت تأثيرها، أو المخلوب لُبُّه بها. هكذا يتبين الخيط الأبيض من الأسود إذن، وهكذا نستطيع التفريق بين العلوم حقيقيها وزائفها، رغم أن لكل قاعدة شواذ. تنشأ الحضارات وتسود وفقا للحالة العلمية فـي الأمة التي تقود ركب الحضارة، فمن امتلك العلم؛ امتلك الحضارة بزمامها وخطامها وقافلتها، وصارت الأمم خلفه يسوقها حيث شاء. ولا شك أن الحضارة كل متكامل، وهي تلبس ثياب أهلها، بخيرهم وشرهم، وحيث إنها فـي زمام الغرب، فـيجب على الشعوب الأخرى أن تأخذ السمين، وتنبذ الغث، وهذه سنة الله فـي الأرض.
الحضارة خير يشوبه الشر إذن، ولأنها كذلك فإن بعض علومها تكون متأثرة بذلك الشر. تحدثت فـي مقالة سابقة عن علم النفس وعلاقته بالتنمية البشرية، وهما أمران متفقان فـي شيء، ومختلفان تمام الاختلاف فـي أشياء أخرى. حين نتناول علم النفس باعتبار أن تأسيسه الحاضر من منهج ومنظور غربي، فـيجب أن نحاكمه وفقا لذلك، فكما هو معلوم بأن العلوم تتطور بتطور المجتمع النابعة منه بعاداته واعتقاداته. تغير شكل المجتمع الغربي بتقدم الزمن، وانتقلت المركزية من العائلة الكبيرة، إلى العائلة الصغيرة، إلى الزوجين (الشريكين) إلى أن صارت اليوم مرتكزة على فردانية الفرد نفسه. رافق هذه التغيرات تطور فـي علوم الاجتماع بالمراقبة والرصد، والنقد والتمحيص أيضا. منذ ظهورها فـي منتصف القرن العشرين، ظلت نظرية ماسلو الأساس المرجعي لفهم العلاقة بين التنمية البشرية وعلم النفس. ففـي هذه النظرية العلمية والمشهورة بهرم ماسلو للاحتياجات، يحدد عالم النفس الأمريكي حاجات الإنسان فـي هرم من 5 مكونات. قاعدة الهرم هي الحاجات البيولوجية (الطبيعية) والفسيولوجية من غذاء وشراب وهواء ومأوى ونوم. تتلوها الحاجة إلى الأمان، ثم الحاجة إلى المحبة والانتماء، والحاجة قبل الأخيرة هي الحاجة إلى التقدير. ثم يأتي رأس الهرم الذي انبثقت عنه ومنه نظرة علم النفس الإيجابي، وهي الحاجة إلى تحقيق الذات واستنفاد الطاقات الكامنة فـي المرء ليصبح أفضل نسخة من نفسه محققا إمكانياته القصوى، بعبارة أخرى أن يكون الإنسان فـي القمة تماما من الحسن والكمال البشري.
لماذا أذكر نظرية ماسلو وهرمه إذن؟ لأنه المدخل الذي انبثقت منه التنمية البشرية وحاولت أن تكتسب شرعيتها به. تتميز التنمية البشرية اليوم بتحفـيز الناس لبذل أقصى طاقاتهم وإمكاناتهم لتحقيق «النجاح» فـي العمل، ثم الحياة. فالتنمية البشرية فـي عمومها شيء جيد يحفز الناس، لكنه يتجاهل كونهم أناسا وبشرا. فالرغبة فـي النجاح الذي يشير عادة إلى المال والاستزادة اللانهائية منه، ومركزية الذات، تجعل المؤمن بجدوى التنمية البشرية فـي لهاث مستمر للوصول إلى الهدف، الذي يتمثل فـي الكنز النهائي «الثروة اللامحدودة»، ولكنه لا يمانع فـي أن يدوس البراعم المزروعة فـي الحديقة ليقطف الثمرة التي يريد، بعبارة أدق فهو لا يبالي بكيفـية تحقيق «النجاح»، ويبدو المنتقد له «حسودا» والناصح له «غيورا» والمتبرم من ظلمه «حاقدا»، فـي مركزية لانهائية ولامحدودة فـي التقوقع على الذات ورؤية العالم الخارجي كعدو لدود لا هم له إلا أن يؤذيه. بدأت تظهر مع قدوم موجة التنمية البشرية وهبوب رياحها العيوب فـي الرسالة المقدمة ، وفـي النتائج والأفعال. ولأنه جرى تقديمها باعتبارها «علما»، ثم إلصاقها بعلم النفس؛ فقد أخذ الناس صورة مشوهة، مسخا حقيقيا أسموه علم النفس!.
إن الخطر المحدق الناتج عن هذه الصورة الضبابية وعدم القدرة على التفريق بين علم النفس والتنمية البشرية، جعلت المصابين بحالات معينة من الأمراض يحجمون بأنفسهم أو بمحرض ورفض من ذويهم الذهاب إلى مختص فـي علم النفس كان يمكن أن يمد إليهم يد العون والنصح ويساعدهم فـي التغلب على مشكلاتهم بمساعدة فرع من فروع علم النفس بما يتناسب مع حالة المريض. ما حصل هو عملية تشويه حقيقية، جعلت الناس تنفر من المعالجين النفسيين وقرنهم بـ «مدربي» التنمية البشرية، وكما هو الحال فـي نظرية داروين التي نسفتها الكنيسة ببث عبارة «أصل الإنسان هو القرد» وإلصاقها بداروين؛ حصل الأمر ذاته مع علم النفس. فأصبحت عبارات «كيف تكوني فراشة؟» أو «أخرج الأسد الذي بداخلك» كناية عن سخرية سامة أصلها تسخيف التنمية البشرية، تدفع المتردد فـي استشارة معالج نفسي مختص، يقرن علم النفس بالشعوذة المتمثلة فـي التنمية البشرية التي تمنح شعورا لذيذا لحظيا بالانتشاء، لكنها لا تعالج المشكلة وجذورها.
تكمن أهمية علم النفس فـي كونه يمكن أن يساعد المرضى النفسيين أو ممن بدأت أعراض المرض تظهر عليهم فـي اجتياز وعلاج هذا المرض، قبل أن يشكل خطرا على صاحبه أو على من هم حوله. إن الادعاء بأن الشيء الفلاني غير موجود لا يعني بأنه كذلك فعلا، فبمجرد أن نغمض أعيننا ويختفـي الضوء عنها، لا يعني أننا طمسنا بالفعل الشمس أو مصدر الضوء، بل هو وهم لذيذ نخدع به عقولنا. نعيش اليوم فـي أزمة عالمية حقيقية، ونستطيع أن نواجهها وهي فـي مهدها أو نمثل بأننا لا نراها ونتركها تكبر فـي الظلام، وهي مشكلة الأمراض النفسية التي تنتشر انتشارا سريعا ومخيفا. إن الاكتئاب الذي يمكن متابعة تطوره بقرائنه وبالوضع الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي بشقيه فـي الواقع الحقيقي والعالم الافتراضي؛ ينتشر بسرعة بين الشباب. ما دور علم النفس هنا؟ إنه يشرّح السبب والجذر، فربما يكون منشأ المرض بيولوجيا متعلقا بالأعصاب، لا دخل له بأن المصاب به لم يقرأ القرآن أو لم يصل النوافل!. ولا أعني بالعبارة الأخيرة انتقاصا من الدين وأثره فـي حياة المرء، لكنها واحدة من العبارات المستعملة فـي حالات سابقة وصلت لحد انتحار أصحابها، فـي حين كان من الممكن علاج تلك الحالات بأخذها عند المختص المناسب لتقديم العلاج المناسب. يتطلب العصر الحديث بمشاكله وهمومه وأمراضه دفعة قوية من أناس كثر يتكاتفون للنهوض بالمجتمع وتقديم ما يمكنهم من خير لمجابهة الشر والجهل، يتطلب المزيد من علماء النفس، ويقتصر أداء التنمية البشرية فـي الشركات فـي القسم المختص برفع معنويات الموظفـين وأدائهم، كي لا تعود عبارة السخرية من داروين مرة أخرى، وتترسخ باعتبارها حقيقة كسابقتها.