العلاج بالمياه
لو قيل لي قبل أسبوع من الآن أنني سأصبح مهووسة بكتابة الديستوبيا، لن أصدق ذلك أبدًا، فبعد روايات وأعمال سينمائية عديدة، استبعدت الإعجاب بهذا النمط والأسلوب الفني.
غالباً ما تقع الديستوبيا، وهي المكان المعطوب - نقيض اليوتيوبيا أي المدينة الفاضلة - في حيز صغير، تحت وقع نظام محكم كما في روايات عديدة منها رواية نحن للمؤلف الروسي يفجيني زامياتين التي -وأقتبس هنا من مقالة سابقة لي نشرت هنا عام 2016- تحكي في صفحاتها الأولى، أن «( د ٥٠٣) يعيش في الدولة الواحدة، حيث كل فرد فيها ما هو إلا عدد، طرف من معادلة، (د ٥٠٣) لا يحب الشعر ولا الشعراء ويسخر منا نحن البشر الذي عشنا قبل مائتي عام، ويسمينا بالمتوحشين، كل شيء يعتمد في هذه الدولة على العمليات المنطقية التي يقيمها العقل، حتى الحب، يرى (د ٥٠٣) أننا سخفاء فيما يتعلق به إلى درجة كبيرة، كل ما يلزم معرفته هو الخضوع لتحليل طبي للتعرف على وقت التزاوج لكل واحد منا والتلاقي مع الجنس الآخر في وقت التزاوج هذا، أما الأمر بالنسبة له فلا يعدو كونه نكتة».
تعد روايات الكندية مارجريت أتودد مثل روايتها «حكاية الجارية» مثالًا آخر عن الديستوبيا الرائجة كعمل أدبي.
هنالك أعمال سينمائية عديدة تكرس الديستوبيا أيضًا منها أعمال المخرج اليوناني يورغوس لانثيموس ومن أشهر أعماله: Dogtooth وThe Lobster دائما ما تشكل أفلامه حالة من الجدل الواسع حول العوالم التي يوجدها باستمرار والتي يحرّك فيها شخصياته. يشبه ذلك كله اتجاه جوزيه ساراماغو في الكتابة، ففي قصة نجد أن الجميع يصاب بالعمى ويضطر الناس للعيش في هذا المكان وهم فاقدين للنظر، ونجد للنساء موقعا خاصا داخل هذه القصة فالعنف الذي يطالهن أكثر من الآخرين، وروايته الأخرى انقطاعات الموت حيث بلاد لا يموت فيها أحد. إنها إذن المفارقة التي تلعب دور البطولة والرياح التي تغير حياة الشخصيات اليومية.
يبدو لي بعد كل هذه الأعمال أنني فقدت اهتمامي بهذا النوع الأدبي، إذ يبدو مقتصدًا فيما يتعلق بالتخييل، تديره عناصر محددة مسبقا، وما يظهر مع تقدم النص ليس سوى تنويعات على الأثر الذي ستتركه المفارقة على مصير الشخصيات وقدرها. قرأتُ هذا الأسبوع عمل «العلاج بالمياه» للإنجليزية صوفي ماكنتوش المولودة عام ١٩٨٨ ويعد هذا عملها الروائي الأول وقد تأهل للمنافسة على جائزة المان بوكر العالمية للرواية وقت صدوره عام 2018، صدر العمل بالعربية قبل أشهر عن دار المدى العراقية بترجمة للقدير علي عبدالأمير صالح.
نقرأ في هذا العمل عن منزل في جزيرة معزولة عن «البر الرئيس» حيث العالم المسموم الذي يعيش فيه الرجال والنساء المصابات بالأذى منهم.
تعيش في هذا المنزل ثلاث فتيات هن غريس وليا وسكاي، ويعيش معهن الأم وكينغ (الأب). وهنا نبدأ مع أول عناصر هذا العمل الأدبي، وهي تغييب اسم الأم، فنحن لا نعرف من هي إلا بوصفها أما، ومن خلال تفاصيل العمل نكتشف أن دورها يقتصر على تكريس التقاليد التي سيفرضها «كينغ» الأب، اختيار هذا الاسم له أيضاً والذي يعني «الملك» يحمل دلالات تلقي بظلالها على الجو الكئيب القاتم للقصة. يقنع كينغ الفتيات بأن البر الرئيس سيتسبب بمقتلهن، وأن عليهن التدرب على حماية أنفسهن والحذر المفرط من كل شيء بعيدا عن حدود الجزيرة، يتحكم كينغ بحياتهن في أدق تفاصيلها فهن لا يستطعن البكاء مثلًا، ولا يأكلن أي شيء، ويمُنعن من المطالعة والقراءة، ويعشن طقوس متنوعة لعلاج أجسادهن وتمرينها على ما يمكن أن يحدث من سوء لهن. لذا فإن الخوف هو كل ما تعيشه هذه الفتيات المقهورات في هذا المكان القصي الذي لا يصل إليه أحد، عدا نساء كنَّ في وقت من الأوقات يلجئن للجزيرة لعبور الطقوس نفسها ليتطببن من أثر السموم عليهن.
«كينغ» هو الشخص الوحيد الذي يعبر للضفة الأخرى من حدود هذا المكان المعزول ويمارس مع الفتيات طقوس مختلفة هدفها تطهيره من كل السموم التي قد يلتقطها هناك. يفعل ذلك بدافع من شراء الحاجات التي تنقصهم أو ما شابه ذلك. لم تر الفتيات أي رجل على الإطلاق عدا «كينغ». لذلك فنحن نعيش معهن التفاصيل المبهمة لتعريف كل شيء، الحب، الإخوة، الشجاعة، والضعف، الشعور بالذنب، الخوف، والمرض مع تقدم القصة وحضور رجلين وطفل للجزيرة بعد وفاة كينغ المزعومة. تكتب صوفي ماكنتوش كما لو أنها تجترح من عذابات النساء العميقة والمصقولة بفعل التاريخ والذاكرة الجمعية بحساسية كبيرة ومتأنية.
تصف صحيفة الغارديان أن كتابة ماكنتوش النثرية تقشعر لها الأبدان، وأنا لا أبالغ إذا ما قلتُ بأنني طوال قراءة الرواية وأنا أشعر بدبيب يسير في داخلي، صديقتي التي تقرأ نسختي من الكتاب بعدي تقول أنها تشعر بالقشعريرة وهي في الصفحات الأولى من الكتاب، اذ تمس ماكنتوش أكثر الأماكن سريةَ، والتي نستأنس بها رغم ما تثيره من ذكريات عن ماضينا وحاضرنا المؤلم لأنها أخيرًا وبأكثر الأساليب عذوبة تنطق بها وتجسدها مكتوبة في النص، فيصبح لها شرعية من نوع ما. إذ نعرف نحن النساء أن الكثير من التجارب المؤلمة التي نعيشها أو تعيشها نساء أخريات قريبات منا قد يتم تبسيطها أو التطبيع معها، ذلك أن الاعتراف بها يعني مسائلة من ارتكبها ومن دفع بها وهو أمر ترفضه المنظومة الأبوية بطبيعة الحال.
تكتب ن. ك. جيميسين في نيويورك تايمز: أن كينغ ينشئ على جزيرته هذه شابات تم تدريبهن على الحرمان، وعلى أساطيره التي يؤمن بها. مع التركيز على البقاء على قيد الحياة. ربما تكون هذه الرواية عن حكاية البنى الأسرية للبطريرك. تحوم الفتيات في القصة في حالة من عدم اليقين والخوف المطلق في هذا المكان ليظهرن كالممتلكات العزيزة او المحظيات لدى الأسرة. وتتساءل الكاتبة عن النظام الأبوي وماهيته بعد كل شيء؟ فهو ليس إلا خداع يتم العمل به والتواطؤ معه، فيما يهُمس للضحايا أن أي معاناة يتعرضن لها ما هي إلا لمصلحتهن.
كتبت ألكسندر ألترا في وقت سابق مقالة بعنوان «كيف توجه الرواية النسوية البائسة غضب النساء وقلقهن». وتقرأ فيها عن أعمال تثير أسئلة غير مريحة حول تفشي عدم المساواة وكراهية النساء والعنف ضدهن، والعواقب الشديدة للتمييز الجنسي المؤسسي. ومن بينها رواية العلاج بالماء لصوفي ماكنتوش التي لا تبدو لها كل هذه الأسئلة مجردة ففي لقاء معها قالت إنها قررت جعل هذه الأسئلة أكثر صلابة وجسدية «شعرتُ أنني لست بحاجة لابتكار كارثة، كان هنالك بالفعل كارثة تحدث». عموما تشير هذه المقالة الهامة لهذا النوع من الأدب وما يترتب عليه في المجال العام، والتأثيرات التي تركها في الصراع الاستقطابي الذي نعيشه اليوم.
أخيرًا رغم أننا نقف على حافة نهاية العالم في هذه الرواية، إلا أن هذا يبدو ضروريا على نحو ما، التأمل من هذه الحافة تحديدا، فمن أي مكان آخر، قد تكون الرؤية مضللَة وغير وافية.