العدوان على رفح
تعيش عائلة أقرب أصدقائي في غزة في رفح، منذ بداية الحرب ومع تركيز جيش الاحتلال على شمال غزة، لجأ العديد من سكان غزة والشمال إلى جنوب القطاع حيث تسكن عائلة صديقي هذا. عكف والده وأخوته على تنظيم مبادرات شخصية للعناية بالنازحين، قسموا الأدوار بينهم، هنالك من هو مسؤول عن الطبخ أو توزيع الطعام، نتحدث طبعًا عن وجبات فقيرة جدا كحساء العدس، أو ما توفر بصعوبة بالغة. بالإضافة لأدوار أخرى مثل العناية بالمرضى والحرص على نظافة المكان، وتوزيع الناس. حفظتُ أسماء الشوارع والمخيمات في رفح، بات في ذهني خريطة متخيلة للأحياء كلها، حتى أنني بدأت أعرف أي العائلات تعيش في أي مخيم بالضبط. بقية أصدقائي عانوا كثيرا مع نزوح عائلاتهم وبحثهم المستمر عن المأوى، والخيام، التي من المفترض أن تكون مجانية إلا أن قيمة الخيمة الصغيرة الواحدة جاوز الألف دولار. وضعت عائلة صديقي هذا كل مدخراتها للحصول على أبسط الأشياء، كالمحارم الورقية مثلا، ورغم إصرار أمه على مغادرتهم القطاع خوفًا على إخوته الشباب من الخطف والأسر أصرّ والده على البقاء. صديقنا الآخر من رفح شاركنا صورة لكتبه التي تستخدمها عائلته معتذرة للحصول على نار للطبخ، مكتبته التي بناها على مدار سنوات قبل هجرته، على أمل أن يعود لها يومًا ما، ها هي أصبحت رمادًا، لكن ما الذي يعنيه هذا حقا أمام خسارته أخته التي استشهدت في نوفمبر الماضي هي وبناتها وكل عائلة زوجها؟ أما والدة صديقي المقرب فبعثت له رسالة: أي الكتب تريد من المكتبة؟ نحاول جمع الأشياء الثمينة من البيت. مع إقرار جيش الاحتلال الدخول لرفح أخيرًا بعد ثمانية أشهر من بداية الحرب، شاركنا المحادثة التي قال فيها لأمه بأنه لا يمكن أن يفكر في الكتب وكيف يمكن أن تكون ثقيلة في وضع كهذا. لكنها ألحت: كتبك لا تقل قيمة أبدًا عن كلّ شيء ثمين قررنا أن نأخذه معنا. تقول هذا لابنها الأكبر الذي لم تره منذ أربع سنوات؛ لأنه ببساطة لا يستطيع العودة إلى غزة، وإن عاد فإن الخروج منها صعب جدا، إذ ينبغي انتظار التصاريح اللازمة للسفر ودفع مبالغ هائلة للتنسيقات على حدود المعبر لشركات احتيال مقنن. هذا طبعا أن اتفق له أن يتحمل مشقة السفر والمعديات ونقاط التفتيش من معبر رفح وصولا لصالة الترحيلات في مطار القاهرة، تماما مثل المجرمين، في رحلة لا تتجاوز في الوضع الطبيعي أكثر من عشر ساعات لتصل إلى أربعة أيام، من النوم في العراء. أصرّ بأنه لا يريد شيئا منها. قال هذا ولم يعلق على الأمر أكثر! ما الذي يمكن قوله حقًا؟
مع العدوان الأخير على المخيمات في رفح تراشقت أسماء الشوارع التي حفظتها، المخيمات التي تحدثت عنها مع صديقي هذا وعن ذكرياته فيها، وعن معنى العيش في مخيم سيسولوجيا. كيف يمكن أن يخرج الإنسان ناجيًا من مخيم لاجئين فلسطينيين لا أفق لهم في هذا العالم؟ بدأ الجميع بالتواصل معه، وسؤاله عن وضع عائلته: هل هم بخير؟ هل أصاب خيامهم شيء؟ وكعادة الإنسان الذي يقاوم الهزيمة بادعاء أن ما سيحدث لن يحدث له هو، بل سيحدث للآخرين، هذه الآلية الدفاعية التي أثبتت فشلها في غزة، إذ أن الجميع بلا استثناء تحت وطأة الإبادة، الجميع خاسرون مسلمين كانوا أو مسيحيين، أغنياء كانوا أو فقراء، من الشمال كانوا أم من الجنوب. هنا أحسَ صديقي أن الكارثة تخصه وأنه لم يعد يقوى على الدفاع عن فكرة عيش عائلته وسلامتها بعد الآن.
مثل الجميع صدمت صبيحة السادس والعشرين من مايو بما حدث في رفح، صدمة مردها صفاقة العدو الذي يحدثوننا عن محاكمته على الجرائم التي ارتكبها منذ أكتوبر الماضي. وكان أكثر ما هدّ قوتي تماما، تصريح نتانياهو بأن ما حدث في مخيمات غزة خطأ قاتل سيحاسب عليه فاعلوه. إن هذا الاعتراف بـ«الخطأ» بعد قتل أكثر من 40 ألف فلسطيني وتحطيم كل شيء في غزة لهو لعبة جديدة يمارسها العدو. إذ هو بذلك يدعي الموضوعية وبقدرته على الاعتراف بالأخطاء عندما تحدث، ها هو ذا أخيرا يعترف بخطأ ما، الأمر الذي يجعل كل ما فعله في السابق وما سيفعله في قادم الأيام مسوّغًا. في التوقيت نفسه خرج لنا واحد لا يقل سوءًا عن نتانياهو، المذيع البريطاني بيرس مورجان، الذي استمر منذ بداية الإبادة بالإصرار على إدانة حماس وعلى حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، حتى هذا خرج لنا غاضبًا مما حدث في رفح، وينبغي علينا كلنا أن نخر خاضعين لقدرته الكبيرة على أن يكون موضوعيًا أخيرًا، أن يكون مع الحق عندما يعرف أين يكون. وكأن ما حدث قبل يوم الاثنين كان شرعيًا ولا يتطلب إدانة إسرائيل أو اتهامها بإبادة شعب كامل على مرأى كل العالم.
إلى صديقي في رفح، إلى عائلته ولكل أصدقائي النازحين مع عائلاتهم، قلوبنا تصلي لأجلكم، وقلوبنا تغلي بلا حد.