العالم سينتهي قريبًا

16 يوليو 2024
16 يوليو 2024

لطالما دافعت عن إمكانية أن يكون هذا العالم الذي نعيش فيه أفضل مما هو عليه. قال لي أصدقائي مرة إنني مثالية جدًا، جادلتهم بأن إنهاء الفقر ممكن وأن توحش رأس المال ليس طريقنا الوحيد المتاح، لكنهم خائفون من خسارة امتيازاتهم الحالية ويسألون أسئلة ردت عليها الأدبيات اليسارية خلال عقود، ماذا لو خسرنا مكتسبات الرأسمالية؟ ماذا لو أن المنافسة لم تخترع لنا الأجهزة الذكية كما هي عليه الآن؟ المنافسة في سوق حرة طبعًا، لكنني أيضا كتبت عن كتاب ماكس فيشر (الرغبة ما بعد الرأسمالية) وأجريت حوارًا مع مترجمته عبر برنامج فصائل الفضاءات على أثير إذاعة سلطنة عُمان العامة - حيث قالت إن الفكاك من كل أزمات عالمنا اليوم تبدأ بالقدرة على التخيل أولًا. التخلص من الأحكام التي تكبلنا، أو بطريقة أخرى إعادة النظر في الواقعية الرأسمالية وحتميتها. لو تأملنا أنفسنا لرأينا كيف أننا لا نتخيل عالمًا دون أن يقتل فيه الفلسطينيون كل يوم، وأن التفاوت الطبقي المتطرف طبيعي جدًا، فهنالك عدد لا بأس به -حتى وإن كان الغالبية- من البشر لا يجدون شربة ماء ولا كسرة خبز، بينما يتنعم آخرون في ملذات لا قدرة لنا على تصورها.

كالعادة يكتب المنظر السياسي جي ناثان روبنسون في العدد الأخير من المجلة التي يشغل رئاسة تحريرها كلمة بعنوان: كيف تؤمن بمستقبل مشرق؟ يناقش فيها إغراء الاستسلام والانسحاب والعدمية أمام فكرة أننا محكومون بدوامة لا تنتهي من العنف ومشاكل لا يمكن أن تحل، نشعر بأن العالم يقترب من نهايته، ومع وجود الهواتف الذكية هنالك عزلة غير مسبوقة تعيشها الأجيال الجديدة. هنالك بالفعل ما يثير الخوف حول مصير هذا العالم الذي نحيا فيه، مثل أزمة المناخ، أو الدول التي تمتلك أسلحة نووية، بالإضافة للذكاء الاصطناعي الذي يستخدم بصورة كبيرة اليوم في تصميم أسلحة جديدة مرعبة.

أتذكر بهذا الصدد لقاء آخر أجريته قبل أيام مع الدكتور هاني القاضي الجراح العماني الذي عاد من غزة قبل أسبوع بعد أن قضى فيها شهرًا وشهد مآسي مروعة، عندما حدثنا عن نوع من الطائرات الصغيرة جدًا، التي تدخل من نافذة البيت وتستطيع تمييز السكان وقتلهم بدقة فائقة، في تصويب عالٍ جدًا وغير قابل للخطأ في غزة.

يقول روبنسون:عالمنا مكان عجيب غني بالموارد، ويمكن لبراعتنا أن توجد تقنيات معجزة، ولا يوجد سبب يمنع كل شخص على وجه الأرض من العيش في سلام وراحة، وتلبية احتياجاته الأساسية. لا يوجد سبب يدعو لاستمرار العنف والفقر والوحدة. ربما يتملكنا كل هذا اليأس لشعورنا بأننا لا نملك أي سيطرة أو مدخل إلى السيطرة على كل هذه المشاكل التي ذُكرت قبل قليل. نحن مخذولون من حكومات العالم ونخبه، لكنها وبحسب روبنسون لا ينبغي أن تكون الجهة المسؤولة عن إنجاز الأمور بالنيابة عنا. فالحصول على استجابة قوية على كل الأزمات من قبلها معدوم لأسباب تقدم لنا على أنها -براجماتية- أي عملية يقتضيها الواقع وشروطه.

كانت ردة فعل الناس على محاولة اغتيال ترامب، تعميق شعورهم باليأس. يبدو ترامب كما لو كان شهيدًا على حد تعبير روبنسون، وهو يستخدم محاولة اغتياله بصورة مثالية لكي يحصل على مكاسب سياسية منها. إذا تابعنا الظن بأن تقديم الرعاية الاجتماعية والصحية للجميع، والاستجابة الجادة لأزمة المناخ، مرهون بحكومات العالم وأنها هي من ستفعل ذلك فسنرى الصورة قاتمة جدًا بلا شك. يستدل روبنسون بفشل الحكومة الأمريكية نفسها الاستجابة لانقطاع الكهرباء في هيوستن الحارة جدًا بعد إعصار ضعيف نسبيًا، فيما يبدو أنه فشل للمؤسسة في حمايتنا.

ويشير كذلك لتصاعد حضور اليمين الأمريكي الذين يرون الجميع أعداء لهم، وهم يعتبرون أنفسهم في مهمة لاستعادة البلاد، مثل جميع الأحزاب اليمينية التي صعدت في أوروبا والتي تستهدف المهاجرين بصورة خاصة. يمكن لما يحدث في غزة أن يفقدنا الثقة في الإنسانية جمعاء، ولكن يذكرنا روبنسون بأن إنهاء هذا الرعب ممكن إذا التزمت أمريكا بخيار آخر على اعتبار أنها تسيطر على إمدادات الأسلحة كما يذكرنا روبنسون بذلك بشدة، كل ما نحتاج إليه أن نفرض إرادتنا وأن ننتظم سياسيًا لتحقيق هذه الإرادة. إذا فاز ترامب بالانتخابات وهذا ممكن أمام غريمه غير المؤهل، فيجب أن تكون هنالك مقاومة منظمة وملتزمة واستراتيجية، كما يؤكد روبنسون على أنها ينبغي أن تكون مرحبة وإنسانية ومنفتحة وممتعة لجذب غالبية السكان بدلًا من النخب الملتزمة أيديولوجيًا، يجب علينا جميعًا أن نمتلك خططًا وإجابات واضحة على أسئلتنا الملحة، وأن نستخدم خيالنا للتفكير في واقع مختلف، الخيال الذي يلهمنا للمضي قدما في الأوقات المظلمة.

أعتقد أن ما يهم روبنسون بشكل خاصٍ هو الالتزام الجاد بما ندعي أنه يهمنا. فلندرس المؤسسات لنرى كيف تفشل وتنجح، ندرس حركات التاريخ الاجتماعية، أتذكر بشكل خاصٍ ما فعله الطلبة في مخيمات الجامعات الكبرى للمطالبة بوقف إطلاق النار فورًا، درس هؤلاء الطلبة تكتيكات استخدمت فيما سبق لمناهضة الحرب على فيتنام، واستخدمت ذلك النموذج للتفكير في تخريجات جديدة تلائم الثورة التي عزموا على المضي فيها قدمًا. أفكر على صعيد شخصي بدوري في ذلك كله، من السهل أن أقول بأنني عاجزة عن مشاركة الفلسطيني ما يحدث الآن من قهر وإبادة وتشريد لكن التزامي بالمعرفة، تخيلي أن هنالك عالمًا لا ينبغي فيه أن يكون هنالك نظام خطر على الإنسانية على حد تعبير جريدة «عُمان» في كلمة الرأي قبل يومين كنظام الاحتلال الصهيوني، يجعلني نهمة وحية ومسؤولة أخلاقيًا إزاء كل شيء.