«الصاروخ بيضوي أخت السما»
يقول لي أصدقائي في غزة هذه الأيام: إنهم عاجزون لغويا عن وصف ما يحدث. من يتابع منهم الأخبار التي ينقلها مدير قناة الجزيرة ومراسلها من غزة وائل الدحدوح يقترحون تنويعات على ما بات بالنسبة لهم مبتذلا، وغير قادر على الوصف. يطل علينا مراسلو غزة الإخباريون؛ ليقولوا لنا مع كل يوم جديد منذ السابع من أكتوبر: «القصف الإسرائيلي الذي تتعرض له غزة الآن غير مسبوق ولم نشاهد مثله من قبل» كل يوم نستمع للجملة نفسها ولا نشعر أن شيئا ما يتغير، ربما تلمع غزة وأهلها في مخيلنا كمكان للموت فحسب. يقترح أحد أصدقائي أن نغيّر اللغة عما حدث اليوم في غزة. إذ إن ما يحدث الآن غير مسبوق عشر مرات!، فيقول ماذا لو قلنا «الصاروخ بيضوي أخت السما!».
أحاول كعادتي فهم ما يحدث. ربما وبسبب من التفاؤل القاسي لم أكن أتخيل أن يصبح الجسد الفلسطيني وهو مقطع لأشلاء مشاعيًا على الهواء مباشرة. كنتُ أعرف عن كل معاناة أهل غزة بحكم علاقاتي هناك، وربما كنت أقاوم فكرة الاستسلام لعبثية الحياة بحجة أن الناس يجهلون حقيقة ما يجري هناك! لكن ماذا عما يحدث الآن؟ كيف يمكن أن يقتل أكثر من عشرة آلاف إنسان بهذا البرود! كيف يمكن أن أفهم هذا؟ أن أفسره؟ لأنني عاجزة فحسب عن التفكير في إمكانية كل هذا الشرور. أتذكر الفيلم التسعيني بطولة ميشيل فايفر عندما أضاعت طفلها ذا الثلاث سنوات، فعاشت أسرتها كابوس هذا الفقدان طيلة عقد كامل، غيرت منها ومن زوجها ومن أبنائها الآخرين، ترعبني فكرة أن الطفل ضاع في إحدى ضواحي شيكاغو الجديدة والثرية وبدا لي ذلك مرعبا، لكن ماذا عن كل أطفالك لا يضيعون، بل يتم حرقهم وتفجير رئاتهم بالسلاح الحراري أو تهشيم جماجمهم، ماذا عن أطفال تجد رؤوسهم أو أحد أطرافهم وتشعر بالامتنان لذلك؛ لأن أطفالا آخرين في غزة أصبحوا أشلاء مطحونة بدون مبالغة، كيف سيبدو الأمر حينها؟ أُصابُ بالذعر وأنا أفكر بذلك. قبل شهرين فُجعنا بغرق طفل في إحدى استراحات الباطنة، تفاجأت بأنه ولد الجيران المحاذي لبيت عائلتي، رأيتُ بنفسي خيمة العزاء! وبكيتُ كثيرا رغم أنني لا أعرفه ولا أعرف أي أحد في ذلك البيت، ثم التفتُ لعائلتي وقلت: لن نحجز أية استراحة بعد الآن، وإن فعل أحدكم شيئا كهذا أرجوكم لا تخبروني أبدا!
هل فهمتم ما يحاول عقلي القيام به؟ تقديم مقاربات! يحاول جاهدا الاقتراب من فظاعة ما يحدث لناس غزة كلهم!، أحاول أن أتخيّل الكارثة وهي في أشد حضور لها، في تحققها المباشر والدامي، في اعتمادها على العظام واللحم والدماء لأناس جائعين ومحاصرين في مكان ضيق للغاية! أهلع... أهلع... أهلع حقا.
ومن بين الأشياء التي فعلتها، قرأتُ كتاب «دفاعا عن الجنون» لممدوح عدوان، يصف عدوان الفلسطيني بالهندي الأسمر، هندي أسمر مهدد. أستدعي على الفور قصيدة محمود درويش الشهيرة «خطبة الهندي الأحمر:
«إذًا، نحْنُ منْ نَحْنُ في المسيسبّي. لَنَا مَا تَبَقّى لنا مِن الأمْسِ / لكنّ لَوْنَ السّماء تغيّر، والْبحر شَرْقا تغيّر، يا سيّد الْبيض! يا سيِّدَ الخَيْل، ماذا تُريدُ مِنَ الذّاهِبِينَ إلى شَجَرِ اللّيْل؟ /عالِيَة رُوحُنَا، والمراعي مُقَدَّسةٌ، والنّجو مْكلامٌ يضيءُ.. إذا أنْتَ حَدَّقْتَ فيهَا قَرأْتَ حكَايتَنَا كُلَّهَا».
ما الذي يقوله عدوان ودرويش معا، مقاربة أخرى يا إلهي!! لكن هنالك دما آخر وقصة أخرى وكارثة جديدة، ولغة مستعصية لا تتجاوز كل يوم ما بين الترويسة التالية «ما يحدث غير مسبوق»، ربما سيكتب عدوان شيئا آخر مع مرور الوقت، سأصبر سأواصل القراءة، حتى وصلتُ إلى المقالة المعنونة بـ«اعتراف» وهي مرافعة قدمها ممدوح عدوان أمام محكمة «الشعب الدولية» حول جرائم الحرب التي اقترفتها إسرائيل عام ١٩٨٢ في لبنان وقد عقدت هذه المحاكمة في طوكيو عام ١٩٨٣. وتأمل معي عزيزي القارئ أرجوك هذه المقاطع المتفرقة من هذه الشهادة. أولا: «إنني مقتنع تماما بأن المصالح الإمبريالية هي التي تقف وراء الدعم الأمريكي والأوروبي الغربي للصهيونية. هذه مسألة متعلقة بصانعي القرار السياسي وبكبار الرأسماليين والاحتكاريين. ولكن ماذا عن المواطن العادي؟» ثانيا: «وبالنسبة إلى كثير من الأوروبيين تبدو مشكلة فلسطين تعبيرا عن أزمة ضمير. في الماضي كان اليهود، وخاصة في أوروبا، عرضة للاضطهاد. والأوروبي في أعماقه ليس مستعدا للعودة إلى قبول اليهود ولا للتسامح مع نفسه حول ذلك الماضي. وهو يريد أن يغسل ضميره وأن يبقي على صورته نظيفة ونقية وفي مرآته هو بأرخص الأسعار. وبدلا من أن يتعامل مع اليهود بإنسانية ويقيم مجتمعات ديمقراطية حقيقية يستطيع اليهود أن يعيشوا فيها بأمان يرى أن من الأفضل والأسهل أن يشجع الصهيونية التي ستأخذ اليهود إلى الحلبة الفلسطينية وحيث سيساعدهم على أن يكونوا الأقوى والمنتصرين».
ألا يثير في نفوسكم الرعب من أن خطبة عدوان هذه التي قدمت في فبراير عام ١٩٨٣ نستخدمها هي ذاتها اليوم على جرائم يرتكبها الكيان نفسه؟ أربعون سنة بالضبط تفصل بين ما حدث آنذاك وما يحدث الآن في هذه اللحظة وما زلنا نتوسل اللغة ذاتها، السردية نفسها. لغتنا التي يبدو أنها ماتت معنا من هول ما يحدث! لكن الضربة القاضية بالنسبة لي كانت في هذا المقطع تحديدا: «لقد حاولنا أن نطور قدراتنا ولكن إسرائيل كانت تجبرنا على تكريس كل شيء لدينا لكي نتجنب الإبادة، وحاولنا أن نطور حياتنا ولكن إسرائيل كانت تجبرنا على تكريس كل شيء لكي نتجنب الاجتثاث، يصر عدوان إذن على تسمية ما تقوم به إسرائيل بالإبادة! أتذكرنا في الأيام الأولى مع بداية هذا العدوان ونحن نلح عبر رسائلنا العاجزة في وسائل التواصل الاجتماعي، كأننا نتوصل لهذه الحقيقة للمرة الأولى قائلين للعالم انتبهوا للغتكم لا يمكن تسمية ما يحدث بغير «الإبادة» وكأننا وصلنا للذروة الآن! الآن فقط! بينما يعيش الفلسطينيون هذه الذروة منذ بداية القرن العشرين! الذروة نفسها عاجزة عن اختراع لغة موازية للكارثة، وكل ما تفعله هو توسل المقاربات، والادعاء بأن تسمية الأشياء يحدث للمرة الأولى أخيرا.
قولوا لي بعد هذا كله: لماذا يموت الفلسطيني هكذا؟ وهل سنصر على استخدام كلمة «إبادة» في المرات القادمة التي يبدو أننا نؤمن أنها مصير الفلسطيني! هنالك مرات قادمة كثيرة أيها الميت، أو يا من توشك على الموت!