الشخصية الساخطة في قصتي «الممثّل» و«سائق النساء» لأزهار أحمد
في مجموعتها القصصية (الممثّل) الصادرة عن دار الانتشار العربي عام ٢٠٠٧م كتبت القاصّة أزهار أحمد مجموعة من القصص القصيرة المتنوعة في موضوعاتها، وفي تفكير شخوصها، وفي سير أحداثها. تتشكل المجموعة من خمسة عشر نصًا قصصيًا تختلف فيما بينها في أساليب السرد واشتغال اللغة السردية فيها؛ إذ إن نصوص المجموعة تفيض باشتغال متفاوت في البناء السردي واللجوء إلى اللغة للتعبير عن بواطن الشخصية وسير الأحداث.
في قصتي «الممثّل» و«سائق النساء» مثلًا يقودنا السرد إلى العوامل النفسية الداخلية المنبثقة مع الصوت الحكائي للشخصية والذي من خلاله استطاع الراوي إيصال صوته المهزوز والمنكسر إلى القارئ، لذا حاولت الشخصية إثبات قوتها ونبوغها في الحكاية، ثم تفشل، فتنتقل إلى محاولة ترميم الذات والتأقلم مع الواقع الذي تعيشه.
تبدأ القصتان بكلمتين مفتاحيتين ينطلق منهما النصان إلى تشكيل صورة الشخصية الرئيسة وبنائها، نجد قصة (الممثّل) تبدأ بعبارة «أخطأ مرة أخرى ...»، ثم يتلو عملية الخطأ عملية تبرير هذا الخطأ الذي سيفتح السرد للشخصية أن تبرّر خطأها من خلال حوار داخلي مع النفس، فتنطلق واصفة المهمة التي ستقوم بها الشخصية، يقول الممثل في حواره الداخلي: «أنت تعلم أنه يمكنك إجادة هذا الدور من المرة الأولى، ولكنك تكرّر الخطأ متعمدًا، ما زلنا في بداية التصوير.. يا خبيث، تقول لنفسك، ثم تبتسم بلؤم وتعيد الكَرّة». ص٤٣.
أما قصة (سائق النساء) فهي أيضًا تبدأ بكلمة مفتاحية دقيقة، يتلوها حوار داخلي للشخصية في وصف حال السائق، تقول الكلمة في أول القصة: «الصبر يا إلهي». ثم يأتي الصوت الداخلي للشخصية/ السائق ضعيفًا مهزوزًا ممتزجًا بصوت السارد: «كيف لي أنْ أتحمل كل هذه الفوضى لساعتين كاملتين؟ كان يفكر ضاغطًا بيده على فكه الأسفل، ثم صرخ بنبرة أسى وإرهاق: اجلسن أرجوكن، اهدأن قليلًا.. الطريق مزدحم ولا أستطيع التركيز، سأصطدم؟».
تقوم القصتان بعد ذلك على عملية بناء الشخصية وإظهار ملامحها في السرد، وهنا تظهر لنا صورة الشخصية الساخطة، المتذمرة من الواقع، الرافضة لما تشاهده في حياتها اليومية.
في قصة (الممثّل) تظهر صورة الشخصية/ الممثّل ناقمة على الحياة، متقمصة دور ممثلٍ يقوم بتمثيل الحياة في كذبتها الكبرى وتقديمها للمُشاهد، لكنّ الواقع في طبيعته وذاكرته المتمثلة في الجوع والفقر تجعل من الممثل ممثلًا على طاقم العمل محاولًا ترميم البؤس والفقر الذي هو عليه، ليقوم بتمثيل دوره وإعادة التصوير لأكثر من مرة مستغلًا الوضع ليسد جوعه وفقره بما يوجد من طعام، فيتعرض للطرد بسبب ذلك.
يقود الحوار الداخلي السرد إلى التعبير عن حال الشخصية، فكما يقوم الحوار بتقديم حال الشخصية فإنه يُظهر رفضه لبؤس الحياة والمجتمع في هيئة صراع بين أطراف متعددة ومتخيلة. وهنا يظهر السخط في حوارات الشخصية/ الممثّل، يظهر سخطه على المجتمع حين يقول: «هو الآن سيد ثروة أبيه ووريث الملك الوحيد، الغواني تحت قدميه والمال تراب رائع هذا الدور، تعبت من أدوار الشجاعة والشهامة والمروءة أن لي أن أهتدي. كل أدواري قصيرة، وقصيرة جدًا بالرغم من كثرتها، يحبون في وجهي العنيد وملامحي الصارمة ويدي الخشنتين، يقولون إنني فكرة جديدة ويستغربون كيف صنعت هذا الشكل المؤثر لي. ضحكت عليهم، ما أحمقهم، يا أسياد المال وأسياد الكراسي، لم أصنع شيئًا لنفسي، بل الأيام صنعتني، الجوع خلقني والأسى هيأني، والألم منحني صرامة الخطوط والملامح.
إيييبيه أيها الأسياد، لو ذقتم مرارة السجود على أرض رطبة، أو لو أكلتم طبقكم وهو فارغ، أو لو درتم بحمل القرون على ظهوركم. إيييييه يا عالم. انتهى هذا المشهد بنجاح.
الكل معجب مبهور، وأنا راض، أتقنت المشهد بعدما أخذت حقي من التقلب في ذلك الفراش الوثير، وبعدما أكلت إفطارهم ٩٨ مرة، ربما تعجبوا من قدرتي على الأكل بهذا النهم، لا يعلمون أنني جائع منذ ألف عام، وأنني ورثت جوع أمي وأبي وأجدادي.
المشهد التالي سيجعلني ألبس ملابس الأمراء، ما أروعني!!! آه.. أحب أن يتخدر جسدي بماء الورد، ألست أميرًا؟ ألست وريث الجاه؟ إذن يجب أن يتخدر جسدي بماء الورد». ص43
كما يُظهر سخطه على الأسرة متمثلة في الأم حين يقول: «الآن أنتبه لشيء!!! يا لعجبي!!! حتى حليب أمي كان بطعم الماء؟ هل كانت تخدعني وهي ترضعني؟ أكان حليبها ماءً، وماء راكدًا أيضًا؟
آه يا أمي، كنت أظن أن حليبك هو الجاه الوحيد بحياتي. لم أتذوق طعمًا للملح ولا للسكر، إذن ماذا كنتُ أكل؟ الماء الراكد و...». ص45
ولا ينس أيضًا إظهار سخطه على ذاته حين يقول: « المشهد التالي لذيذ، سأكون أنانيًا أكثر، سأعيد كل مشهد فيه بذخ، حتى أنتقم من هجره لي. هل كنت فقيرًا إلى هذا الحد؟ ما أغباني، لم أكن فقيرًا، لا، كنتُ معدمًا، لم أكن أشعر بطعم شيء سوى الماء الراكد». ص44
تستمر الشخصية بإضمار سخطها العام على الكل، لتتشكّل دلالة التعبير من ذلك السخط، ويظل مستمرًا السخط اللفظي عنده إلى نهاية الحكاية إذ يقول: «أجوب الأرصفة وحدي، أبتلع غصة وألمًا بطعم النار، لم ألحق بمشهد الأمير وهو يعرض خزائنه الألف على أصحابه، خزائنه الممتلئة بالملابس والأحذية والعطور، لم ألحق بمشهد تجريب كل قطعة والزهو بها أمام المرآة ولم أصل إلى مشهد العرس ومأدبته الخيالية. أين أنا الآن؟». ص46
أما (سائق النساء) فنلحظ في لفظه السخط على الحياة والتبرم من عمله سائقًا لنساء الأعراس، نجد هذا السخط متمثلا في عبارته: «لن أشتم الحياة التي رمتني لقدر أن أكون سائقًا تحت الطلب للنساء، لم أتوقع كل هذا البؤس، توقعت المتعة والانتشاء والفرح، دائمًا كنت أتمنى أن أعمل لدى النساء وبمكان ممتلئ بالنساء، واخترت هذه المهنة لأشبع من المرأة وجمالها وقوامها أيا كانت، ولأختار حبيبتي باقتناع ورغبة، هكذا كنتُ أفكر، لم أحسب حسابًا لشيء سوى صحبتي للنساء». ص58
يلجأ الراوي إلى العودة إلى الوراء في سبيل إظهار سخط الشخصية الحالي من مهنته المرتبطة بنساء الأعراس محاولًا إقناع القارئ برؤيته تجاه هذا السخط المتشكّل من صراع بين طرفين السائق، والنساء، يقول: «أول مرة عملت بها، كانت نقل طالبات إلى حفل موسيقى، فرحت جدًا فأنا أحب الطالبات الفتيات، البنات الصغيرات، استمتعت بتلك الرحلة التي استمرت أربعين دقيقة ذهابًا وأربعين دقيقة إيابًا. كن فتيات رائعات يدرسن الموسيقى هادئات يتحدثن بهمس وحين يتحدثن معي يقلن.. الأستاذ جعفر.. وكنت أنتفخ كمنطاد، من يومها لم أسمع كلمة الأستاذ. النساء يقللن كثيرًا من أهمية الرجل إذا عمل عملًا متواضعًا، ولهذا كانت كلمة أستاذ من الأشياء الرائعة التي لم تتكرر في حياتي.
اعتقدت أن الأمر سيكون هكذا دائمًا، وكان العمل متنوعًا في البداية ما بين حفلات الجامعة ونقل الموظفات من مقار أعمالهن، وحفلات الأعراس.
للأسف أن صيتي ذاع بين النساء، نعم أقول للأسف أن صيتي ذاع كم أنا بائس وأنعى شهرتي، لولا حاجتي وعنادي لما واصلت هذا العمل، أكره النساء، أكره البنات، أكره الأعراس، أكره الموسيقى أكره الأغاني، أكره يا طبطب وأدلع التي صدعت رأسي بإعادتها عشر مرات حتى الآن، لقد تحديت أصدقائي بالقول إنه عمل رائع وسهل مع أنهم حذروني منه، وها أنا لا أستطيع الاعتراف بالفشل رغم مرور سنتين». ص58
تتناول القصة صراعًا حاصلًا بين السائق والنساء، صراعًا متمثلًا في البغض والكره من فعلهنّ المتكرر في مكان ضيق متمثل في الباص الذي يقلَهن من بيوتهن إلى مواقع الأعراس، يصف السائق هذا المشهد أو هذا الصراع قائلًا: « جميعهن واقفات يرقصن، وكلما مرت سيارة من اليمين أو اليسار تبطئ سرعتها ليستمتع ركابها بمنظر الباص الذي يهتز من الرقص، ويلوح ركاب السيارات المارة لجعفر، الذي يقول لنفسه، طبعًا هذا يحرجني، فأنا أعلم أنهم يسخرون». ص58 وفي موضع آخر يقول: «آه، ألم أجد خيرًا من أكون سائقًا لعزومات الأعراس؟ أنقل النساء من بلدة إلى بلدة تصاحبهن الزفات والصهيل والزغاريد كل عرس يشبه الآخر، وكل أسبوع يمتلئ باصي بخمس وعشرين امرأة، وكلهن مجنونات كل النساء مجنونات، عنيدات، أنانيات تافهات يا لهذا الاكتشاف، إن صحبة النساء تعلم الكثير من خباياهن، مجنونات، مجنونات، وأنا تعيس». ص58
هذا الصراع أوجد سخطًا كبيرًا تجاه الآخر يتمثل في حقيقتين أطلقهما السائق: الأولى كرهه لنساء الأعراس كما في عباراته: «أكرههن» و»أكره النساء، أكره البنات، أكره الأعراس، أكره الموسيقى أكره الأغاني، أكره يا طبطب وأدلع...». الثانية وصفه النساء بصفات البعض كقوله: «وكل أسبوع يمتلئ باصي بخمس وعشرين امرأة، وكلهن مجنونات، كل النساء مجنونات، عنيدات، أنانيات، تافهات» أو قوله: «وهؤلاء السيدات مجنونات للغاية مدمرات لنفسيتي للغاية، قبيحات، باهتات،.. أكرههن».
لم يكن هذا الصراع في حقيقته سوى صراعٍ مهني متمثلٍ في نظرة المجتمع إلى النساء اللواتي يرقصن في الأعراس ويغنين في أفراحه ولعل السائق نقل صورة المجتمع الناظر إلى نساء الأعراس فانبنت عليها شخصيته التي شكّلت نسقًا متمثلًا في النظرة إلى المرأة.
خالد المعمري كاتب عماني