السيارة والشارع: عن الزمن السريع وسرعة الزمن

10 سبتمبر 2022
10 سبتمبر 2022

هل يمكن أن أشرع في كتابة بريئة عن السرعة والزمن كنافذة تتأمل في الأوقات الطويلة التي نقضيها داخل السيارة على الطرقات المسفلتة، دون أن تنحرف سطور هذه الكتابة، أو قراءتها من بعد، إلى نوع من النقد السياسي الرائج للرأسمالية وآثارها التي تتجلى في أدق تفاصيلنا اليومية والنفسية في زمان السرعة المتسارع هذا؟!

هذه لحظةُ انتباهٍ صغيرة أثناء العبور من شارع نحو آخر، هنا في التقاطعات القاتلة حيث تتقاطع أشياء أكثر من المركبات التي تثقب هواء البرهة الحار: صور ومشاعر تتداخل وتفترق، ذكريات واحتمالات وأخطاء سابقة، كلها تكتظ في تلك الثانية المكثَّفة من عمر السائق المحاصر بثلاث مرايا صغيرة، قبل أن تُسدده عجلات المطَّاط فوق سِكَّته التالية. هذا مشهد مقتطع من شريط طويل تسجِّله الحواس مجتمعة خلال مشوار يومي بالسيارة التي لم تعد أداة من أدوات الحياة المألوفة كالذراع المفترع من الجسد، أو مجرد وسيلة نقل فقط، بل أصبحت السيارة مكاناً، مكاناً موجوداً بالفعل كواحد من الأمكنة التي يسكن إليها المرء على الخريطة، حتى بالرغم من تخلي هذا المكان المُستحدَث عن استقراره، وهي الصفة البديهية التي يتحلى بها أي مكان على الأرض. وهذا ما يجعلني أتخيل طبيعة التحولات المدهشة التي تطرأ على مكان يقرر أن يتحرك لأن حيويته وقيمته مرهونة بالحركة، على العكس من حال أي مكان أرضيّ من تراب وهواء وسماء. ما الذي يتغير في هوية هذا المكان وذويه خلال هذه الحركة؟ كيف تتكون ذاكرته؟ وكيف نجسُّ نبض الزمن في عروقنا داخل تلك الرقعة الضيقة المقفلة التي تزوج الريف بالمدينة خلال دقائق خاطفة بلا صدمات أو مفاجآت تذكر، في ظل غياب عاملي الثبات والاستقرار؟

ما زال بوسعي أن أستعيد افتتاحية ميلان كونديرا لواحدة من أمتع رواياته، البطء، حتى بعد سنوات على قراءتها، حين يقول في وصف حالة "الانخطاف" التي تتلبس سائق درَّاجة نارية: "إنه لا يمكنه أن يركز إلا على الثانية الزمنية لانطلاقه، متشبثاً بومضة من الزمن مفصولةٍ عن الماضي والمستقبل، مُنتزَعاً من اتصال الزمن، يكون خارج الزمن، أو بعبارة أخرى تتلبسه حالة انخطاف، فيها ينسى كل شيء عن عمره وزوجته وأبنائه وهمومه. بانطلاقه يكفُّ عن الخوف، لأن مصدر الخوف يكمن في المستقبل، ومن تحرر من المستقبل لا يبقى لديه ما يخشاه". هكذا ينظر كونديرا إلى السرعة التي تسرق لذة البطء في مختلف نواحي الحياة، وكأنها حالة انخطاف من أجل التجاهل والنسيان، بخلاف من يعدو على قدميه، فهو يجعل من الجسد مصبَّ تركيزه ومُنطلقاً للحظة، واعياً بإمكانيات جسده وإحساسه بالفتوة أو الكهولة الصاعد من الرُّكب.

وبالحديث عن السرعة لا بد من الحديث عن الزمن، فهو المتغير الأولى بفهم السرعة باعتباره شريكاً أساسياً في معادلتها الفيزيائية. ولطالما كان إحساسي بالزمن في الشارع لا يشبه إحساسي بالزمن خارجه، في الأماكن الراسخة وكأنها منزَّلة من السماء في موقعها الجغرافي المحدد، والتي يطمئننا ثباتها تحت الأقدام بالسكون والاستقرار، كشعوري الآن خلف هذه المنضدة التي أكتب عليها. ولكن بفضل السرعة التي لا تخطر على خيال الفرسان المجنَّحين على صهواتهم في الشعر العربي القديم، والتي يتأرجح مؤشرها بين ١٢٠ إلى ١٤٠ كيلو متراً في الساعة (في حالة تعتبر أقل تهوراً) فإن رغبةً غامضةً تنمو عندي لقهر الزمن بقدمٍ مُتصلبة على دوَّاسة الوقود، رافعاً إحساسي الجيَّاش بالحركة، كأنني أنا المتحرك الوحيد في ظل ثبات العوامل كلها من حولي، بما فيها الزمن الذي يبدو كعابر سبيل ينتظر من محطة إلى أخرى سيارة أُجرة تُشفق عليه سأم الانتظارات الطويلة. هكذا يخيَّل إليَّ أحياناً وأنا أعبر غابة الظلال والأضواء على الطرقات السريعة في مساء عاجل، حاملاً ومحمولاً داخل هذه العلبة المعدنية التي صممتها الثورة الصناعية لهزيمة الزمن، مقترباً من الشعور الجامح الذي كان يتملك شاعراً جاهلياً كامرئ القيس على صهوة جواده الذي خلَّد وصفه في معلقته الشهيرة:

مِكرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدْبِرٍ معًا

كجُلمودِ صخرٍ حطّه السيلُ من علِ

ولكن أي ثورة صناعية تلك التي ستهزم الزمن ما دامت الدقائق والثواني المهدد الأول بالزوال وأبلغ العوامل المتغيرة قهراً للإنسان؟! أستطيع أن أشعر بفشل هذه الثورة عندما يفاجؤني الشارع بإشارات الخطر والضوء الأحمر لمكابح السيارة التي أمامي عند أي ازدحام أو إشارة مرور تفرض عليَّ الوقوف التَّام، فتسكن الريح التي كانت تحملني قبل ثوان إلى وجهة واضحة أو إلى اللامكان. يتضخم الشعور بالوقت من جديد ويبدأ الإحساس بنزيف الساعة الرملية، تتمدد الهنيهة وتتوتر الأصابع على المقود.

كأن الشارع يفرض على مرتاديه حالة سباق لا يعترف بها السائق بالضرورة، لكنه سيجد نفسه في خضمها وهو يقطع الكيلومترات طاوياً معها صوراً وأبنية ثابتة وطابور نخيل وأشجار على الضفتين. أما في الطرقات السريعة المفتوحة على الأفق فالرهان يحتدم أكثر، خاصة عندما يكون الطريق مجرداً من المعالم الجانبية، كما يحدث معي عند ارتياد خط الباطنة السريع حيث يتوالد المشهد البرّي الأجرد ذاته مُكرراً نفسه بصورة مملة على الجانبين.