الرياضة والصحة النفسية
في المقالة السابقة، تحدثت إلى أصدقائي وإخوتي طلبة الكليات والجامعات، ناصحًا إياهم بما فاتتنا معرفته، وكيف يمكن الاستفادة من أدوات العصر في تحقيق أهدافهم قصيرة المدى، أو تلك الأهداف التي يسعى المرء ويفني حياته في سبيلها؛ وهذه الأهداف تتحول إلى أسلوب حياة، يلزم المرء نفسه بتحقيقها وتكون جائزته السعي في سبيلها، وَصَلَ أم لم يصل؛ فالمتعة في الطريق كما يقولون. تفطّن القدماء إلى أمور اعتبروها بداهية لا ضرورة للتنبيه عليها أو الإشارة إليها، ومع مرور الزمن، صرنا نبحث عن البديهي ونعتبر الوصول إليه أو معرفته كشفا ينبغي الاحتفاء به والتنبيه عليه؛ وذلك لأننا أهملناه ردحًا من الزمن، حتى ظهرت العلل التي كان يخفيها، والنتائج التي كان السد المنيع أمامها، ومن هذه الأمور، هي الرياضة والصحة النفسية كذلك.
كان الإغريق أصحاب النشأة الأولى لكثير من الرياضات والعلوم الفلسفية العقلية في آن، ثم تبنت الحضارات التي جاءت بعدهم كثيرا من رؤاهم وأسلوب حياتهم النافع، ومنها الحضارة الإسلامية، ومن الأقوال المنسوبة إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الخليفة الإسلامي الثاني قوله: «علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل»، ولا يعني قوله هذا الاقتصار على تعليم النشء هذه الرياضات دون تعليمهم العلوم الأخرى؛ بل ليتعلموها جنبًا إلى جنب مع العلوم الشرعية والعقلية على السواء. مرت عقود طويلة على هذا القول، وعلى أقوال أخرى لكثير من الفلاسفة والأدباء والمفكرين والشعراء، الذين حظوا على ممارسة الرياضة بجانب اكتساب المعرفة والعلوم، وبعدما تطورت الحضارة وصار الإنسان في رفاهية مقارنة بما عاشه أسلافه؛ انزوى يبحث عن الملذات ويبتعد رويدًا عن كل ما يمكن أن يسبب له أدنى شعور بالتعب والمشقة، ومِن ذلك الرياضة. فمن ذا الذي يضحي بالنوم بعد صلاة الفجر مقابل المشي الطويل أو الركض بالقرب من مسكنه، أو السباحة في الوادي أو البحر؟ قليل جدا. ولكنَّ هذه القلّة مدفوعة بأحد أمرين؛ إما لأن الرياضة وسيلة للحد من توغّل مرض ما، وتثبيته في موضع ما لا يتجاوزه إلى مرحلة الخطر، كالسكري أو السمنة. وإما لأن الذي مارس الرياضة تجلّت له فتوح عقلية روحية تبعث فيه شغفا للحياة والعمل والتفكير.
رافق تطور الحضارة والرفاهية ظهور مشكلات نفسية عديدة، ولأن علم النفس -كتخصص- يعتبر حديثا؛ فقد كانت وسائل الرصد والعلاج وليدة أيضا، وتتطور بتقدم الزمن وتكرار التجارب والبناء عليها. كالعادة؛ بدأ الإنسان استعمال علم النفس في الحروب، وكعادته أيضا، طوّر هذا العلم في الحروب كذلك. وبعد أن أَشبَعَ الطرف الآخر قتلا وتدميرا، التفت إلى ما يمكن تحويله إلى شيء نافع، ربما ليغسل عنه درن الكارثة!. أصبح الضجر والاكتئاب رفيقين متلازمين لكثير من الشباب، ولحسن الحظ فقد رصد علماء النفس والأدباء كذلك هذه المسألة مبكرا، فصدرت كثير من الكتب التي تتحدث عن ما كان بديهيًا يوما، وأصبح ضرورة ملحة اليوم، وهو رسم المعالم التي يعتمد عليها المرء في حياته ليصل بنفسه إلى بر الأمان. كوضع الأهداف، وما ينبغي تقديمه وإيلاؤه الأهمية، وأهمية تحريك تلك الكتلة الجسدية ليتحرك عقله أولا، وروحه ثانيا. ومن هذه الكتب التي تحدثت عن الأمر «ما أتحدث عنه حين أتحدث عن الجري» للروائي الياباني هاروي موراكامي، و«قاعدة الثواني الخمس» للمؤلفة الأمريكية ميل روبنز وغيرها من الكتب الكثيرة التي تبدأ بمعالجة موضوع الحركة الجسدية وارتباطها بالصحة النفسية، ولا تنتهي بتحليل أثر النوم على الإنسان وكيفية التغلب على منغصات نومه ككتاب فانغ شوي «معالجة منغصات النوم» الصادر عن دار الحوار.
«إن الحركة الجسدية هي الجزء الأكثر أهمية في قاعدة الثواني الخمس؛ لأن فسيولوجية جسدك تتغير عندما تتحرك، فيتبعها عقلك». فحتى «تتمكن من تغيير أية عادة سيئة، عليك أن تستبدل النمط السلوكي الذي تكرره». هكذا تتحدث ميل روبنز في كتابها الذي كتبته من تجربة ذاتية مريرة مرّت بها وصقلتها وخرجت منها بهذه القاعدة التي تعلمها كثير من الشركات والجهات حول العالم لموظفيها، ويطبقها أناس عاديون في تغيير حياتهم البائسة إلى شيء يسعون لتحقيقه حقا. أما ذلك الياباني العبقري، فقد اتخذ من الجري عادة غيرته على مدى الأعوام، فنراه يذكر في كتابه خلاصته الذاتية أيضا: «إن كنت تنوي أن تعيش سنواتك بسعادة، فالأفضل أن تحياها بأهداف واضحة وأن تكون حيًّا بمعنى الكلمة على أن تحيّاها مشوش الفكر. وأنا أؤمن أن ممارسة الجري تساعدك على ذلك». فما يهم حقا «هو ما لا تستطيع رؤيته لكنك تشعر به في قلبك»!.
أستطيع أن أقتبس كثيرا من العبارات من هذين الكتابين الرائعين، وهي عبارات حقيقية ومجرّبة؛ لكن المسألة ليست فيما نتعلمه فحسب، بل فيما نطبقه من ذلك التعليم. فبطبيعة الحال يمكنني التحدث عن أهمية الرياضة وما تفعله بأرواحنا قبل أجسادنا وعقولنا، ويمكنني أن أصف طراوة الأرض ورطوبتها في الشاطئ الممتد، وأن أصف أشعة الشمس في الصباح الباكر وهي تداعب الغيوم كأمٍّ حانية تمشّط شعر طفلتها قبل ذهابها للمدرسة؛ يمكنني ذلك كله. لكن ما متعة التخيّل أمام متعة العيش؟ ما متعة القراءة عن البحر دون السباحة أو الغوص فيه؟ ما متعة هذا كله أو ما فائدته كله؟ إن أقصى ما أتمناه -وخصوصا من الشباب الجامعي- أن يجربوا ممارسة الرياضة والنوم بانتظام، ليروا أثر ذلك في نفوسهم وفي دراستهم كذلك، كما أن أصحاب الهمم العالية من الباحثين عن عمل والذين يتعرضون لضغوطات أرجو أن تنجلي عنهم عاجلا، يمكنهم تجربة الرياضة للتخفيف من وطأة البطالة وأنيابها. فإذا كنا نمتلك القدرة على عيش التجربة، فلماذا لا نجربها؟ فلنجربها اليوم أو غدا، ولننظر تأثيرها في حياتنا..