(الرياض).. بعد أربعة عقود!
في عام 1983م، زرتُ (الرياض)، ضمن وفد شبابي طلابي، مشارك بمهرجان الشباب العربي السادس، وكنت يومها، أسير بخطى واثقة، على درب الشعر الطويل، واضعا قدما على طريق القصيدة، والثانية على خشبة المسرح، فوفّرت لي (الرياض) فرصة وضع الخطوتين على جادّة واحدة، عندما تعذّر على أحد الممثلين مرافقة الوفد، فوجد الناقد علي مزاحم عباس المشرف على العرض نفسه في موقف صعب، فعرض عليّ الانضمام لفريق المسرحية التي عنوانها (ليلة ممطرة)؛ لأحلّ محلّ ذلك الممثل، وبعد تدريبات قليلة، استطعت الاندماج مع الفريق، وجرى تدارك الموقف، الذي ظلّ محفورا في منطقة عزيزة بذاكرتي التي لن تنس حضورنا، في تلك الزيارة، الحفل الغنائي الكبير الذي نظّمته جمعية (الثقافة والفنون) بمناسبة المهرجان، وقد أقيم الحفل في ملعب كبير، وغصّ بالجمهور الذي لم يعتد على مثل هذه الحفلات، وكان متعطّشا، كما لمسنا، لمثلها، وملنا طربا مع فنّان العرب محمد عبده عندما شارك في الحفل وغنّى عددا من أغانيه التي كان الجمهور يردّدها قبله، ومن بينها «أبعاد» و«من بادي الوقت» واختتم الحفل الفنان الراحل طلال مدّاح الذي كان يومها قادما من لندن، وحين قال عريف الحفل: جاء من لندن.. فضجّ الجمهور بالتصفيق الذي بلغ مسامع طلال مدّاح وكان ينتظر دوره في كواليس المسرح، فحمل عوده ودخل المسرح، فازداد صخب الجمهور، وهنا طلب عريف الحفل من الفنان الكبير الانتظار قليلا ريثما يقدّمه، ويذكر اسمه على أقل تقدير!
وهذا دليل على شغف الجمهور السعودي بالفن والفنانين، وهو شغف لمسناه بوضوح في لقاءاتنا مع الشباب السعودي، في تلك الزيارة والزيارات اللاحقة، ومن بينها مشاركتنا في مهرجان (الجنادرية) عام 2013م، وقد لاحظت هذا الشغف في الحفل الذي أحياه المطرب سعدون جابر، وعازف العود المعروف نصير شمة ضمن فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب بدورته التي أقيمت في أكتوبر 2021م، فقد وصلتني دعوة من هيئة الأدب والنشر والترجمة بوزارة الثقافة السعودية، أتاحت لي مجدّدا زيارة الرياض التي يقول فيها الشاعر الراحل غازي القصيبي:
وفاتنة أنت مثل الرياض
ترقّ ملامحها في المطر..
وفي آخر الليل
يأتي المخاض
وأحلم أنا امتزجنا
فصرتُ الرياض
وفي تلك الزيارة لاحظت الصورة الجديدة التي ظهرت عليها العاصمة السعودية، بعد التغييرات الشاملة التي أحدثتها القيادات الشابّة التي تسلّمت زمام الأمور، وقد جعلني الدكتور ممدوح الشمّري الذي له أكثر من عشرين كتابا في شتى جوانب الثقافة السعودية أتلمّس الكثير من الأمور التي تتعلّق بالنقلات التي تشهدها المملكة على كافة الأصعدة، ومن أبرزها الاجتماعية، والاقتصادية والثقافية.
واليوم بعد (41) سنة، أعود إليها ضمن وفد الجمعية العمانية للمسرح الذي يتألف من ثلاثين عضوا، وقد أرسلته الجمعية ضمن توجّه دأبت عليه إدارتها الحالية، لحضور فعاليات المهرجانات المسرحية العربية، فأتيحت لنا فرصة حضور فعاليات مهرجان المسرح الخليجي بدورته 14، الذي احتضنته الرياض بعد توقّف دام (10) سنوات، وهو المهرجان الذي تعرّفت إليه للمرة الأولى في (مسقط) قبل ربع قرن، عندما احتضنت (مسقط) دورته السادسة، عام 1999م، يومها تواصل معي د. عوني كرّومي -رحمه الله- وقال: إنني في (مسقط)، أحلّ ضيفا على المهرجان، فأسرعت إلى لقائه، فوفّر لي فرصة حضور بعض عروضه المشاركة ومن بينها العرض العماني (عائد من الزمن الآتي) الذي قدّمته فرقة مسرح (فنانو مجان) وهو من تأليف وإخراج د. عبدالكريم جواد، وقد حصل العرض على جائزة أفضل إخراج (د. عبدالكريم جواد) وأفضل ممثلة (فخرية خميس)، ونال الفنان الراحل خالد الوهيبي جائزة أفضل ممثل دور ثان، والجميل في الأمر أنّ الفنانة فخرية خميس، والدكتور عبدالكريم جواد حلّا ضيفين على المهرجان بدورته التي اختتمت الثلاثاء الماضي، وهذا يعطي مؤشّرا إلى التواصل بين الأجيال، وهي سنّة حميدة، اتّبعها المهرجان منذ انطلاقته الأولى في الكويت عام 1988م، وفي لقائي بهما، بعد ربع قرن، لاحظت الكمّ الكبير من المتغيرات التي حصلت في الحراك المسرحي الخليجي، فهناك مياه جديدة مرّت تحت الجسر، هذه المياه تتمثّل في الدماء الشابة التي تقود اليوم الحراك المسرحي الخليجي، لذا، جمعت العروض بين قوّة الموهبة، وتوفّر الخبرة، وهذه ميزة حافظ عليها المهرجان منذ دوراته الأولى إلى اليوم، والأهمّ هي النقلة الواسعة التي يشهدها المسرح السعودي مقارنة بالسنوات السابقة من حيث تعدّد الأنشطة المسرحية، والمهرجانات، والعروض، والورش التدريبية، والبعثات الدراسية، بعد توفر الدعم اللازم لاستمرار هذه الأنشطة، ليزدان المشهد الخليجي العام جمالا.