«الروع».. جدليّة صراع الوعي والخرافة
شهور قليلة تفصل بين عرض (الروع) الذي قدّمته فرقة تواصل المسرحيّة، فـي مهرجان (الدن المسرحي الدولي)، و(الروع) الذي شارك فـي مهرجان المسرح الخليجي للفرق المسرحية الأهلية بمجلس التعاون لدول الخليج العربية، فـي الرياض، ممثّلا سلطنة عمان، لكن المسافة الإبداعية واسعة، بين العرضين، فمؤلفه ومخرجه الفنان طاهر الحراصي وضع لمسات جديدة لتطوير شكل العرض، مستفـيدا من آراء الفنانين الذين شاهدوا العروض الخمسة السابقة، وأبرزها اختزال زمن العرض من 90 إلى 75 دقيقة، وبذلك حافظ على تماسك إيقاع العرض، وترابط أجزائه، مطورا الرؤية الإخراجية للعرض الذي يناقش جدلية الصراع بين نور العلم وظلام الجهل، بين العقل والخرافة عبر صيغ فنية تستل من الموروث الشعبي مادته، وهو موروث مشترك فـي مناطقنا، يروي حكايات تُنسج عن كائن خرافـي من ابتكار المخيّلة الجماعيّة الشعبية، وكلّ يوظّف تلك الحكايات لأغراضه، وأهدافه، وخصوصا الأشخاص الذين يمرّرون شرورهم فـي أوساط جاهلة، ففـي مثل هذه الأوساط يجدون مرتعا لهم، فمن منّا لم يروّعه (الروع)، وهو الوحش الذي يرد فـي الخرافات بأسماء متعدّدة، وهو الشمّاعة التي يعلّق عليها الفاسدون جرائمهم متّخذين من جهل عامة الناس وسيلة لتمرير صورة مرعبة عن (الروع)، ويسبغون عليه صفات مخيفة من خيالهم، فهو طويل بشكل شاهق، اعتاد على امتصاص دماء ضحاياه، وابتلاع أرواحهم، وإصابة أجسامهم بالأمراض، بل وحتى سرقة الدجاج وكذلك الماشية، كما جرى مع بائعة المواشي التي سرق منها (الروع) حسب اعتقادها - الكثير من الخراف، رغم يقينها أن الخراف التي عرضها (خدوم) للبيع تشبه خرافها تماما ! ولا يستطيع أحد إبطال عمل (الروع) سوى الشيخ والمعلّم صالح، عن طريق الرقى، وترديد بعض الأذكار، وهكذا تستمرّ الحكاية فـي عرض يبدأ من حيث انتهى الحدث، فهو نص يعتمد البناء الدائري، فـيبدأ بالفزع الذي سبّبه (الروع) لأهالي الحارة، وينتهي بذات الفزع، فتغييب العقل مستمر، منذ أن أطلق (وارث) صرخته، مدعيا أنه رأى (الروع) فـي (السيح) فهرب منه واختفى بعد ذلك صديقه (غصن)، ويعيدنا المخرج، بشكل خاطف، ورشيق، بمشهد استرجاعي إلى طفولة (غصن) و(وارث)، الذي قيل له أن (الروع) قتل والده، لكنّ(غصن) يبدو غير مصدق، وتتفق معه (زوينة) أخت صديقه (وارث) المتنوّرة، التي تجمعها بـ(غصن) الكثير من المشتركات، لذا يحبها ويسعى للارتباط بها، رغم اعتراض والده (المعلّم صالح) بسبب خلافه مع والدها شيخ الحارة هذا الرفض غير المبرّر والخلاف غير الواضح جعل الشك يتسلل إلى قلب (غصن)، و(زوينة)، فلم يكن (الروع) سوى وهم صنعه (المعلم صالح) ليتستّرعلى (الشيخ) الذي قَتَل شقيقه قبل سنوات طويلة، وانطلت الكذبة على الجميع، فرأوا فـي (المعلم صالح) المنقذ والقادر على إبطال أعمال (الروع) الشرّيرة، ودفع الأذى عنهم، ونال (الشيخ) ثروة شقيقه التي استحوذ عليها وفـي النهاية تتكرّر الثيمة ويقتل (وارث) صديقه (غصن) بتحريض من أبناء الحارة، الذين أوغروا صدر (وارث) عليه بسبب علاقته بـ(زوينة) فـيقتله فـي (السيح) ثم يعود إلى سكّان الحي مدّعيا أن (الروع) قتله. اهتم المخرج (طاهر الحراصي) بالمشهدية البصرية (السينوغرافـيا) وحركة المجاميع، فالبطولة كانت، وقد أدارها باقتدار، وكانت أجساد الممثلين تتحرّك بشكل يتناغم مع العزف الحيّ، فأضفى جمالًا على الأداء، فأحيانا يكون مفسّرا، وأحيانا يعمد إلى تعميق الحدث، كذلك كانت الأزياء جاءت منسجمة مع أجواء العرض، وشخصياته المغيّبة تحت ستر ظلام الجهل أنها متجانسة ومتلائمة مع الشخصيات التي أدّى أدوارها: سرور الخليلي وسليمان الرمحي ونوح الحسني وحامد الجميلي وأسماء العوفـية التي نالت جائزة أفضل ممثلة فـي دور أول فـي المهرجان، ومحمد النيادي وعمار الجابري ولطيفة العزيزية، إضافة إلى مشاركة محمد المبسلي، ومازن السليماني، وعامر الوهيبي، والجلندى البلوشي، ومحمد البلوشي، ومحمد الندابي، ومحمد العجمي. وشدّ أداء الطفلين (محمد الريامي، وعز الهنائي) أنظار الحضور، فنجحا فـي انتزاع إعجاب الجمهور، وتصفـيقه وحصل عز الهنائي على جائزة تشجيعية عن دوره (غصن) فـي العرض الذي نال ثناء الدكتورة جميلة الزقاي فـي الجلسة التطبيقية التي أعقبت العرض، ورأت أن المخرج «نجح فـي إيجاد توازن بين الأسطورة الشعبية والتعبير الفني الحديث، مما جعل (الروع) تجربة مسرحية متميزة»، وهو ما أكّد عليه الكثير من الذين شاهدوا العرض الذي أدان الجهل؛ ليعلي ضمنا قيمة العقل. |