الروائي الباحث «1»

19 ديسمبر 2023
19 ديسمبر 2023

هل يفلح الباحث الجامعي، «المتكلّسُ» في أغلب حالاتنا العربية، المعتصم بحَرفيّة التدريس «مهنة شُؤم»، تُذكّرنا بمعلم الصبيان الذي تحدث عنه الجاحظ، وشدد على عدم قبول شهادته لمخالطته الصبية وتأثّره بقلة عقولهم، ونصّص على جهله بسبب تكراره معلومات ظل رهينها يأكل منها طعامه ويكسب منها قوته أن يُوجِد فضاءً إبداعيا يتحقق فيه؟ الأستذةُ مرض عُضَال ومُعطِّل ذهني لا دواء له، إن قنع المُعلم بأنه مصدر معرفة يقينية لا يدخلها الشك ولا يمسها الريب.

حال الأستاذ الجامعي في بلادنا العربية لا يختلف عن حال معلم ابن الجوزي الذي أدخله في باب المغفلين ووسمه متأثرا بالجاحظ بقوله: «وهذا شيء قل أن يخطئ ونراه مطَّردًا ولا نظن السبب في ذلك إلا معاشرة الصبيان، وقد بلغني أن بعض المؤدبين للمأمون أساء أدبه على المأمون وكان صغيرًا فقال المأمون: ما ظنك بمن يجلو عقولنا بأدبه ويصدأ عقلُه بجهلنا، ويوقرنا بزكانته ونستخفه بطيشنا، ويشحذ أذهاننا بفوائده ويكل ذهنه بغَيِّنَا، فلا يزال يعارض بعلمه جهلنا وبيقظته غفلتنا وبكماله نقصنا، حتى نستغرق محمود خصاله ويستغرق مذموم خصالنا، فإذا برعنا في الاستفادة برع هو في البلادة، وإذا تحلينا بأوفر الآداب تعطل من جميع الأسباب، فنحن الدهرَ ننزع منه آدابه المكتسبة فنستفيدها دونه، ونثبت فيه أخلاقنا الغريزية فينفرد بها دوننا، فهو طول عمره يُكسِبُنَا عقلًا ويكتسب منَّا جهلًا فهو كذبالة السراج ودودة القزّ»، وعليه، تصديقا للجاحظ ولابن الجوزي، فإنّ صاحب التعليم يحتاج دوما إلى شحذ معارفه، وتكثيف زاده العلمي، حتّى لا يُنْهي ما به تزوّد من قليل المعارف في تعليم الصبية وأن يظلّ دوما مرجعا في مجاله. يقيني الشخصيّ أنّ الأستاذ الجامعي المتخصّص في الأدب إذا ما تحوّل إلى كتابة الرواية -وهو الأمر الشائع في أيّامنا- فإنّ ذلك ينتهي به حتما إلى الفشل الذريع، ولكن العكس سليم، يعني أن المبدع الروائي قد يتحول إلى جامعي فتكون الفائدة الجليلة، والتجربة الوفيرة.

فعدد مهم ممّن برعوا في كتابة الرواية في العالم أو في منطقتنا العربيّة لا يُتقِنون من اللّغة إلاّ الحدّ الذي به تُجْرَى، ولا يعلمون من فنون السرد والقصص إلاّ ما يُشكّل أذهانهم ممّا يحلو لهم أن يطّلعوا عليه من أعمال يُعجَبُون بها أو أعمال يُتابعونها، ويُسايرون إنتاجها، وعلى ذلك فإن أستاذنا نجيب محفوظ أعرَض عن الدكْترة، وأضرب عن تدريس الفلسفة، واختار طوعا التفرّغ للكتابة، ولو سألتَه آنذاك عن فلاديمير بروب أو عن رولان بارط لفتح فاه متعجّبا، وكذا كان الساردُ العربي الأجل والأقدر -في نظري- عبد الرحمن منيف الذي كانت دراسته بعيدة عن مجال الأدب، ولكن فهمه في الاقتصاديات النفطية والتسويق مكناه من أن يستشرف واقع العرب، وأن ينظر للقصص الآتية في مقبل زمانه وكأنّه يراها تحدث أمامه، فقص علينا ما سيكون دون أن يُشعرنا بثِقَل الدرس السردي ولا بوطأة الدرس النقدي، ولا بحِمْل معلم الصبية، وكذا الأمر مع يوسف إدريس الطبيب، ومع حنّا مينه العصاميّ، وغيرهم كُثر.

بطبيعة الحال هذا الرأي لا يفضي إلى التعميم، فعدد من المدرّسين، وخاصّة منهم من اختصّ بالآداب الأجنبيّة قد برعوا في كتابة الرواية، منهم هاني الراهب وجبرا إبراهيم جبرا، ولكن -كما سلف أن ذكرتُ- فإن ذلك يرجع بالأساس إلى أن طبعهم الأصلي هو ميلهم إلى القصص لا ميلهم إلى التعليم، ولذلك، فإنّ من درّس منهم، ونصّب نفسه مُعلّما، لم يُفوّت أوّل فُرصَة تُسمح له بالتخلي عن جبّة المُعلم حتى ينضوها عنه.

يُضرَبُ لي عندما أتحدّث في هذا الموضوع مثالان مُفزعان، يعتقد جالبهما أنّهما المثال الدامغ لإسقاط ما أذهبُ إليه من رأي في حجْب الإبداع عن الجامعيين الذين يُصدّقون أن دورهم هو زرع اليقين، وهما عبد الفتاح كيليطو في روايته التي لا أعتبرها رواية «أنبئوني بالرؤيا»، ذلك أنّها داخلة في ما يُمكن أن أسميه السردية النقدية التي يبرع فيها كيليطو، وكذلك الأمر بالنسبة إلى «روايته» الأخيرة التي ألحّ في عنوانها على أنها «واللّه إن هذه الحكاية لحكايتي»، فهما سيرةٌ نقدية يُظهرُ فيهما كيليطو الذي كان له الدور الرئيس والأهم في إعادة تسريد التراث النثري أساسا وفق رؤية يُعْمِل فيها النقد الحديث صُحبة القراءة التفاعلية، ولم ينجح كيليطو في كتابة الرواية على الهيئة التي ابتدعها «إمبرتو إيكو» في «اسم الوردة» حيث اجتماع شغف الحكاية مع هيكل النقد، وإنما نجح في أن يبدو صوته قارئا فاعلا متفاعلا مع التراث الأدبي العربي، وهو صاحب اللسانين والقلم الواحد.

وعودا إلى روايته الأخيرة «واللّه إن هذه الحكاية لحكايتي» التي يبدو أن كيليطو قد أراد كتابتها باللغة العربية وهو صاحب اللسان والقلم الفرنسي، فقد تخير لها الكاتب عُنوانا يريد أن يجبّ به ما يُمكن أن يلحقه من تُهَم ممارسة النقد لا كتابة الحكاية، فعبّأ العنوان بأدواتِ توكيد تُظهر تمثّله لقارئ رافض، منكر أن تكون هذه حكاية أولا وحكاية الكاتب ثانيا، فلاحظنا على غير عادة كُتّاب الرواية شحنا للعبارة، بالقسم والإعادة ولام التوكيد. أما بالنسبة إلى المُعلم الثاني وهو الروائي شكري المبخوت الذي احتل منزلة مهمة في الرواية العربية في العشرية الأخيرة، فإن لي في شأنه رأيا وقولا.

فهو أولا توجّه إلى الرواية وهو في طريقه إلى التقاعد من الجامعة التونسية، وقد بدأ في خلع جبّة معلّم الصبية التي تُظهر كتابته بعد ذلك أنّ بقاياها ما زالت عالقة به، وهو ثانيا -في ظنّي- ليس روائيّا مرموقا، وإنّما هو كاتب روايةٍ كألفٍ، صنعتهُ جائزة البوكر العربية التي بها تحقق (يُمكن النظر مثلا في منْح جائزة البوكر العربية لمحمد النعسان الكاتب الليبي الذي كانت روايته هي الرواية الفريدة، الوحيدة، وكان الكاتب مؤمنا بفشل مشروعه الروائي، مؤمنا أيضا بأنّه كتب تجربة عاشها وانتهى الأمر)، وقد كتبتُ سابقا في هذا الشأن الذي تصنع فيه الجوائز الكُتّاب والأدباء.

الخلاصة، أنّ كتابة الرواية بالنسبة إلى الروائيّ الأصيل تتفارق مع البنية المعرفيّة للمعلّمين، ومن ضمنهم الأساتذة الجامعيون، إلاّ من رحم ربّك، فلصاحب التعليم بنية فكرية قائمة على الاستعادة والإعادة تؤدي إلى الكراهة، وفي أفق المبدع بنية فكرية ريبية قائمة على الاستبصار ورؤية الحكاية، وفي الأساس قائمة على حُسن الإنصات وليس على حُسن التكلّم، فالروائي منصت جيد للآخرين، والمعلم باث جيد، ومتكلم مهيمن على فضائه الخطابي، وينبغي أن تبقى حكايته هي الأصلح. هذه مقدمة طويلة الغرضُ منها الحديث عن كتاب صدر حديثا لكاتبة رواية عُرِفت روايتها باللّغة العربيّة ثمّ نُقلت إلى لغات العالم، والكتاب يسير بطريقة عكسية، فقد كتبته صاحبته باللغة الإنجليزية ولاقى قبولين في أرضِ الفرنجة، ثمّ عاد إلى اللّسان العربيّ ترجمة، فكأن الكاتبة تُنْقَل إلى لغة العرب في البحث والدراسة، وتُنْقَل إلى لغة العرب في الإبداع والرواية، فهي -وهي التي تُتقن الكتابة بألسنتهم- لا ترتضي أو لا تقدر أن تُبدع إلاّ بلسانها، الإبداع بلسان أصلي والبحث بلسان أهل المعرفة هو موضوع فشلت في إثارته في هذا المقال، وقد أنجح في مباشرته بشكل مباشر في مقالي القادم.