الحياة والواقع والأدب.. بعيني رامبو وميللر

31 يوليو 2024
31 يوليو 2024

ليس الأدب هروبًا من الحياة أو الواقع، ولا شيئًا خياليًا صرفًا لا يمتُّ للمُعاش بصلة، بل هو في كينونته صورة مركَّزة من الحياة، قد يصوّر جانبًا معينًا من الحياة ويبرزه للخارج أكثر من غيره، لا من سبيل محو الأجزاء المتصلة الأخرى والقابعة في الزوايا المظلمة المنسية؛ بل كما يشتغل «سيد الضوء» رامبرانت في لوحاته الفنية، يبرز شيئًا، ويترك لبقية التفاصيل حرية الحركة في زواياها الأصغر، دون إغفال لها أو تغييب.

يعيش أغلبنا اليوم في دوامة متفاوتة من الحالة النفسية جراء جرائم الاحتلال خصوصًا وما نعانيه من عدم القدرة على مد يد العون لإخوتنا في فلسطين، والأحداث السياسية المشتعلة في العالم عمومًا، فلا نحن نستطيع التغافل عن الحدث، ولا الحدث قابل للتغافل أصلًا! في مشهد يعيد إلى الذاكرة البشرية المعاصرة أحداث القرن العشرين بمآسيها الكئيبة.

وفي خضم هذا كله، تعود إلينا أشكال الحياة ومباهجها عبر المشترك الإنساني من فنون وآداب، خصوصًا تلك التي طبختها يد الزمن بعناية الوقت ونار النقد الهادئة، لتصطفي لنا أعذب ما خلدته التجربة الإنسانية من تلك الفنون والآداب، السابحة في الآفاق متجاوزةً حدود العِرق واللغة والدين. وهو شيء يشترك فيه المقاومون وأهل غزة ويستشعرونه، مع بقية العالم المهموم بقضية المظلومين في مشارق الأرض ومغاربها، ولذلك تتجلى صور الفن المُغَنَّى والمرسوم والمنحوت، ويتجلى الأدب بشعره ونثره، مميطًا عنه ركام القنابل والآلام رافعًا من مكانته كحديقة مسوّرة تُمِدُّ الداخل إليها بالحياة، الحياة التي فَقَد معناها الإنسان الحديث جرَّاء ما يراه من ظلم متراكم، وقهر الأقوياء للضعفاء، وبقيت ملامح من الحياة العذبة قبل تلوثها مبثوثة في الكتب الخالدة.

أمسكت بكتاب لطالما نظرت إليه وأجّلت قراءته، فتحت الكتاب على أمل أن يهدأ هدير العقل قليلًا وأستشعر شيئًا من ملذات القراءة، كتاب هنري ميللر «رامبو.. وزمن القَتَلَة» كان ضالَّتي.

كما يعلم القارئ العزيز، فقد ترك الشاعر الشاب رامبو فرنسا وهام في اليمن والحبشة حيث وجد فيهما وفي إفريقيا والصحراء العربية مأوى لروحه القلقة المضطربة، تاركًا خلفه تركة ثقافية مادِّيةً متوحشةً حسب وصفه لها، رغم أن هذا الشاعر الذي كان أثره في الثقافة الغربية كأثر المتنبي في ثقافتنا العربية، هازًّا إياها، نافضًا عنها غبار التدجين الناسف لكل أشكال المساواة والكرامة الإنسانيتين.

فشاعرنا الذي عاش في القرن التاسع عشر، كان شديد الانتقاد للحكومات الأوروبية كما في رسالته المؤرخة في (يناير) 1888م، من عدن اليمنية: «كل الحكومات جاءت لتبتلع الملايين على كل هذه السواحل اللعينة الحزينة، حيث يظل أهل البلد شهورًا بلا غذاء ولا ماء، تحت أقسى مناخ في الأرض». وهو ما جعل «بعض كُتّاب سيرته -حين يصفون سيرته في شبابه- يجعلون منه ولدا بالغ السوء. ألا تدري؟ لقد فعل أشياء مقرفة.. كيت وكيت. لكنهم حين يأتون إلى مدح أفعال حكوماتهم العزيزة، وبخاصة فيما يتعلق بالمكائد التي وقف رامبو ضدها، يجعلون من كل شيء عسلا وبياضا ناصعا». هكذا يعلّق هنري ميللر الأديب الأمريكي الألماني الأصل، مضيفًا: «عندما يريدون إغفال صفة المغامرة، يتحدثون عن الشاعر العظيم الذي كانه. وعندما يريدون إغفال صفة الشاعر يتحدثون عن فوضاه وتمرده». وهو شيء معلوم في عالم السياسة والمال، وهو ما تجلى في جنون العالم الغربي بعد أحداث السابع من أكتوبر، حتى غدا المشهد العام على قدر عال من السخافة والسذاجة التي لا تحتمل، فصار تبرير قتل الأبرياء سهلًا يسيرًا بنعتهم بكل ما ينزع عنهم صفة الإنسانية والحق في الحياة.

كتب هنري ميللر كتابه هذا سنة 1956، وهو المنتقد بشدة لنمط الحياة الأمريكي -رغم أنه أمريكي المولد والنشأة- وللآداب والحياة العامة ككل التي تتجه نحو المادية البحتة، أو «الأمركة» كما يسميها هو. وأتذكر جيدًا نقده لطريقة الحياة الخاوية هذه في كتابه ذائع الصيت «الكتب في حياتي»، في معرض مقارنته بين السينما الفرنسية والأمريكية والبون الشاسع بينهما، كما في نمط الحياة الملقي بظلاله والمتجلي في الفروقات التي تظهر في السينما الخاصة بكل من البلدين.

وبالنظر إلى الفترة التي كتب فيها ميللر كتابه، يتفاجأ القارئ برؤيته الثاقبة لمسار الحكومات المنتصرة من الحرب العالمية الثانية: «أي صورة أمينة هذه.. لحكوماتنا العزيزة!. هذه الباحثة -أبدا- عن موطئ قدم في مكان ما تَعِسٍ، مُضطهدةً أو مبيدةً السكَّان المحليين، متشبِّثةً بما لديها، مدافعةً عن ممتلكاتها، مستعمراتها، بالجيش والبحرية... الأرض للأقوياء، لذوي الجيوش والبحرية، لأولئك الذين يرفعون الهراوة الاقتصادية». فماذا سيقول ميللر لو كان حيا اليوم؟ وهو يشاهد الحلفاء وقد غدا كل واحد منهم نسرا يقتل الأبرياء في شرق الأرض وغربها، موزعا نياشين الإنسانية على من يشاء، نازعا صفة الإنسانية والحق في الحياة عن من يشاء كذلك!

إن الشاعر والمفكر والأديب في كل زمان ومكان، حتى في العصور التي سبقت قيام الدولة الحديثة، كانوا دائمي الانقسام فيما بينهم وبين زملائهم في الثقافة؛ فقسم يرى مصلحته الذاتية وينطلق منها في منطقه وفعله وسكناته وحركاته -ولو كان هذا على حساب الإنسان والعدل والمبادئ الخيِّرة- وقسم يرى ضرورة حفظ النفس والكرامة الإنسانية مقدمةً حتى على حياته هو. وهو ما يتجلى في غسان كنفاني وناجي العلي وغيرهما من المثقفين الذين استشهدوا دفاعًا عن أوطانهم، في حين اختار آخرون مد يد الوفاق مع قاتل أهليهم وإخوتهم. قد لا يغير الفرد حال العالم، وقد لا يتجاوز تأثيره حدود نفسه، لكن بعض قناعاتنا ومبادئنا الداخلية؛ تكون لأجلنا لا لأجل الآخرين، فقد يخسر المرء كل شيء ويعوّضه بطريقة ما، أما خسارته لذاته فهي شيء لا يمكن تعويضه بحال. فكما يقول الشاعر المصري الكبير أمل دنقل: «كيف تنظر في يد من صافحوك.. فلا تبصر الدم.. في كلّ كف؟» وهو مبدأ كل المقاومين الشرفاء، من ناصر بن مرشد ومن قبله من أجدادنا إلى يومنا هذا في شتى أصقاع المعمورة.

علاء الدين الدغيشي كاتب وشاعر عماني